قصة قصيرة
الأخــرس
بقلم
محمد عبد الله الهادي
mosaleeh@hotmail.com
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
لأنه الأخرس الوحيـد بالقرية ، فإنه كان دائماً ما يُحـاط من أهلها ، بنوع ما من الحب والشفقة ، أو بـذلك الخليـط من المشاعر التي تتولـد لـدى الأصحاء حيال المعاقـين ..، ما إن يرونه في أي مكان يتصادف وجـوده فيه ، حتى تنبتُ الابتسامات تلقائياً علي شفاههم ، وتتحـفز لـديهم روح العبث والمداعبـة والمشاغبة ، انتظـاراً لـرد الفعـل لـديه ، وكان هـو خليقاً بالنـديَّة ، لـديه دائما مخزون هـائل من الـردود المناسبة ، بالهمهمات والإشـارات والحركات التي تموتهم ضحكاً ، وكان هـو أيضاً يضحك معهم بتسـامح ودود ..
والحقيقة أن القـرية ، كانت تفعل هـذا ـ باتفاق باطني غير معلن ـ حيال الأخرس والضرير والأعـرج والأقـرع والأحـدب والمخبول .. وكل أصحاب العـاهات ، بما يمثلونه من نـدرة في مجتمع صغـير يعرف بعضه البعض حـق المعـرفة .
لكن الأخـرس ، ربما كان الوحيـد بين كل هـؤلاء ، الذي لم يكن يرى في نفسـه أية إعـاقة ، وربما كانت إعاقـة الخـرس هـي دافعه الأول للتفـوق علي أقرانه من فلاَّحي القرية ، كان فلاَّحاً ماهراً ، فالأرض التي يزرعها بالإيجار ، تعطي أجـود محصول وأعلى إنتاج ، وكان هـذا ما يدفع بالحاسدين والخائبين ، لأن يرددوا ـ بنوع من الغيرة ـ مقولـة :
" صاحـب كل ذي عـاهة جبَّار " ..
ولأن دوام الحال من المحال ، فإن حياة الأخرس التي اصطـدمتْ بعقبات كثيرة ، تمكن من اجتيازها بنجاح ، واجهتها أكبر عقبة في حياته ، عنـدما أراد الزواج بفتـاة من فتيات القـرية ، ورغم أنه لم يكـن يملك رفاهيـة الحق في الاختيار والمفاضلة كالآخرين ، فإن رغبته في الزواج من أي فتـاة من قريته بسـلام ويسر ، أُصيبتْ دائماً الفشـل ، فـإذا وافقـتْ الفتـاة التي رشحها لنفسه رفضته أسـرتها ، وإذا وافقـتْ الأسـرة عليه رفضته الفتـاة ..
وهكذا تبـدَّل حـال الأخرس بتوالي مرَّات الفشل ، فلقـد نمتْ لـديه مشاعر عدائية حيـال أهلـه ونـاس قريتـه ، وصار مؤمناً عـن يقين أنهم سبب آلامه وتعاسته وسوء حظَّـه ، وآثـر الانـزواء والوحـدة ، واختفـتْ البسمة من وجهه ، وواجه الجميع ـ حتى الذين اعتـادوا مداعبتـه ـ بوجـه جامـد يخلـو من أي مشاعر إنسانية ، ورغم مشاعر الحب والشفقة اللـذين ازدادا لدى ناس قريته تبعـاً لتكرار ذلك الفشـل ، إلاَّ أنهم لم يتمكنـوا من تقـديم يـد المساعـدة له .. وفي الوقت الذي اعتقـدوا فيـه أنه نسي الأمر ، واستعـذب حياة العزوبية ، وصرف النظـر عن فكـرة الزواج ، فوجئـوا بعُـرسه وقـد تزوج بامرأة خرساء من قـرية أخرى .. ، أقبلـوا عليه يهنـئونه بفـرح ، بظن أنه قـد حلَّ مشكلته ، وخرج من قوقـعة حـزنه ، لكنـه ظـلَّ ـ رغم ذلك ـ يواجههـم بمشاعر حيـادية ..
هل نسيتْ القـرية أخرسها بعـد ذلك ؟ هـل تركـوه يحـيا حياته كما تحلو لـه ؟ هـل خمَّـنوا ولو لمرَّة واحدة أنه كـان يؤمل في إنجاب ولـد صحيح غير معـاق يواجههم به ؟ هل عرفـوا أنه أنجـب ولـداً أخـرس كذلك ؟ .. هـل وهـل وهـل ..
أسئلة ظلَّت حائرة بسماء القرية الباردة ، لأن الـذي حـدث بالأمس ، هـو الـذي أعـاد القرية للأخـرس وأعـاده إليها ..
كان الطقس الشتوي بارداً ، والغيـوم السـوداء تتزاحم في السماء متدافعـة ، والأمطار التي هطلتْ مدراراً أوحلتْ الغيطان والطرق والشوارع وخلفتْ بركاً كثيرة من الماء ، وتخللتْ الأمطار أسقف البوص والقش ، وطالت الناس وأشياءهم داخل الـدور الطينية بالبـللْ ، وانعقـدتْ فوق الـدور سحب دخان " الرواكي " و" المناقـد " والأفـران التي لا تهـدأ نيرانها للتـدفئة ..
لكن العيـال الذين لا يأبهون لأي طقس كانوا يلعبون بفرح ، يخوضون الماء ويدوسون الوحل ويجرون مشمرين ذيول جلابيبهم ، وجـرَّار آل مرزوق الزراعي كان عـائداً عنـد كوبري الميزانية ، عندما فوجئ بالعيـال أمامه ، سمعوا زمجرة دواليبه فابتعـدوا بسرعة ، لكن واحداً منهم لم يكـن بإمكانه السماع ولم ير أو يتحـرك ، والفرملة الكابحة لم تجـدِ نفعاً مع الأرض الموحلة المزحلقـة ، وانزلق الجـرَّار ـ رغم أنف السائق ـ فوق الصبي فأرداه قتيلاً ..
عـلا الصراخ ، وخرجت القرية عـن بكـرة أبيها ملهوفة ، تشمر ذيـول جلابيبها ، وتخوض الأوحال ، بحثاً عن عيـالها المبعثرين بالساحات والأجران وشواطئ الترع والمصارف ، وعند الميزانية عرفتْ القرية بنـوع من الدهشة أن الطفل القتيل أخرس ، وأنه ابن الأخرس ، الذي رأوه يبكي لأول مـرَّة بدموع حقيقية ، كان يبكي بعنف ومرارة ، من مخزون سنوات طوال حبـس فيها دموعه ، أحـاطوا به مشفقين ومواسين ، وكانت دموع زوجته لا تكف عن السقوط بصمت ، وطارتْ من القرية إشارة لنقطـة الشـرطة الكائنـة بالقـرية المجاورة بالحـادثة ..
أقبل الغروب سريعاً في يـوم الشتاء القصير ، وحلّ ظلام الشتاء الحالك ، وتطوع واحـدٌ وأحضر كومة قش من الجرن القريب ، وغطَّى جثـة الطفـل ، وكان السؤال الذي طـاف بعقـل القـرية مع بداية الليـل الطويل هـو : هـل يترك الضابط حجرته الدافئـة بالنقطـة ، ويأتي في هـذا الـبرد القارس ، لمعاينـة الحـادثة ثم يصرح بالدفـن ؟ ..
انزوى الأخرس وزوجته بجـوار حـائط كوبري المـيزانية ، بالقـرب من جثـة طفلهما ، انتظاراً للضابط ، لم يكن يشغل بال الأخرس من شيء سوى مواراة جثة ابنـه التراب ، وتسرب بعض الناس وعـادوا لـدورهم ، وتقدَّم الليـل ببـرده القارس ..
تطوع واحـدٌ آخـر وأحضر بطَّـانية قديمة ، ألقـاها علي أكتاف الأخرس وزوجته ، ولم يأت الضـابط ، وتسرب جمعٌ آخـر ..
وأحضر واحـدٌ ثالث أفـرعاً نباتيـة طال بعضها البـلل من الجـرن ، كومها بالقرب منهما ، وأشعل عـود ثقاب يُشعل لهما ناراً تُدفئهما ، كانت النـار ترعى بالأعواد المبتلة ببـطء شـديد ، وتدفع بدخَّانها الكثيف الحارق الذي يُدمع العيون ، والرجل يذكِّيها بدفع الهواء فيها من فمه مرَّة أو بفضلة جلبابه مرَّة أخرى ، فتترقص ألسنتها الصغيرة الزرقاء في الهواء ، وظلَّتْ جمراتُها متوهجةً لبعض الوقت قبل أن تخمـد ، ولم يـأت الضـابط ..
وجـاء واحـدٌ رابع بمصباح من الصفيح لـه فتـيل مشتعل يهـتز بفعل الهواء ، ووضعه بالقرب منهما بجـوار الحـائط حتى لا تنطفئ شعلته ، وتسرب القليـلون الباقـون ، والليـل يتقـدَّم وتـزداد برودته ، ولم يأت الضـابط ..
نهض الأخـرس وحمل المصباح ، ودارى شعلته بكفِّه ، ووضعه بجـوار جثَّـة الطفـل ، كأن الطفلَ نائـمٌ هناك تحت كومة القش المبتلة ، وكأنه أراد أن يؤنسـه في وحشة اللـيل الطويل وظلمته الحالكة ، ثم عـاد لموضعه بجوار زوجته يقرفص ململماً أعضاءه ، ضاماً ساعـديه فوق ساقيـه ، مريحاً ذقنـه عليهما ، وراح يرقـب الهواء البـارد وهو يأخـذ بخناق المصباح ، وكأنه يأخـذ بخنـاقه هو ، ويسحب شعلته في طريقـه ، فيسحب روحه معها ، ويكـاد يهـب بالنهوض من جلسـته ، ليحميها بكفِّـه قبـل أن تنطـفئ ، لكنها كانت تقاوم باستمـاتة للبـقاء ..
مضى الليـل وجـاء الصباح ، ونهضتْ القرية من نومها ، وفركتْ أجفانها ، تذكرت مأساة الأخرس ، تذكرتْ أنها تركته وزوجته وحيـدين مع ابنيهما الصريع ، علي قارعة الطريق عنـد كوبري الميزانية ..
خرجتْ القـرية بكل ناسها لكوبري الميزانية تستطلـع الأمـر ..
عنـدما وصلـوا إليـه ، لم يجـدوا أحــداً هناك ، لا الأخـرس ولا زوجتـه ولا جثَّـة الطفـل الصريع ..
فقـط ، كانت هناك كـومة قـش مبللـة ، وبقعـة دماء متخثرة مختلطة بالوحـل ، ومصباح مطـفأ من الصفـيح ، ورمـاد نـار بللتـه قطـرات المطـر ..
وبحثتْ القـرية عن أخرسـها في كـل مكان ، ولم تجـده .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
قصة من مجموعة ( امرأة .. وألف وجه ) الصادرة مؤخراً عن سلسلة ( خيول أدبية )