القاضي والكلب..
المشهد: مجلس قضاء.. القاضي وكاتبه والحاجب..
يخرج خصمان، فينادي القاضي بإدخال الخصمين التاليين..
يدخل مجموعة من الأشخاص.. فيسألهم القاضي: من المدعي ومن المدعى عليه؟
ـ كلنا مدعين يا مولانا القاضي..
ـ فما شكواكم؟
ـ نشتكي مختار حيينا، فقد أهاننا بتصرفاته الحمقاء وسوء فعله، حتى أصبحنا أضحوكة بين الأحياء..
ـ وكيف ذاك؟
ـ أعزّ الله مولانا.. لقد مات له كلبٌ فأقام له جنازة مهيبة وصلّى عليه، ثم ها هو يقيم له الآن عزاءً لثلاثة أيام، وقد بذل فيه الطعام والشراب ومباهج الضيافة، كأنّ الذي مات من سَراة القوم!
ـ عجيبٌ عجيبٌ ما أسمع.. وهل في الدنيا بقايا تلك العقول المتخلفة، والأهواء الضالة؟!
ـ كما قلنا.. والرائد لا يكذب أهله، وإلا فابعث وراءه فليأتك واسأله..
ـ وكذلك أفعل، فإن العدل يقتضي سماع طرفي الخصام، وإلا شال الميزان وادّعى من شاء على من شاء بما شاء..
يصيح القاضي بالحاجب أن ائتني بهذا المختار..
...
المشهد: نفسه.. وقد جاء المختار..
القاضي: (للمختار) هل تعرف هؤلاء؟ (يشير إلى المدعين)
المختار: نعم أعرفهم، فهم أهل حيّي وجيراني..
ـ لقد جاءوا في شكوى ضدّك، على أنك أقمت جنازة وعزاءً باذخاً لكلب مات لك.. فوالله لو صحّ قولهم فإن ذلك يقتضي الحكم عليك بالسفه والحجر على أموالك..
ـ صحيحٌ ما قالوا وما شهدوا.. ولكن ألا يسمع مولاي القاضي أصلحه الله حجتي ودليلي، قبل أن يقضي فيّ بحكمه؟
ـ بل نسمع.. وما أرى حجتك إلا داحضة غير مغنية عنك شيئاً، فما اقترفته من جرمٍ دليلٌ على طيش عقلك وسوء رأيك.. فقل..
ـ يا مولانا.. كان هذا الكلب الحبيب إلى قلبي وروحي لا يشبه الكلاب في شيء، وقد كان رحمه الله قد أوصى..
ـ (مقاطعاً) هواهي.. هواهي.. أبالباطل تنطق في حضرتنا، كلب يوصي، ورحمة الله عليه، ما أراك إلا نطقت خلفاً، ولا أرى إلا الجلد يعيدك إلى رشدك وصوابك..
ـ أعاذ الله مولانا من الجور والحيف، وإني والله لا أرى أني أُنصفت عندك حتى أبسط حجتي أمامك كاملة غير منقوصة، فليتسع صدرك، وأصبر عليّ كما يصبر الأسد على فريسته، فإذا رأيت سوء قالتي وحجتي، انقضضت عليّ انقضاض الأسد دون رحمة..
يشير إليه القاضي منزعجاً بالاستمرار..
ـ لقد أوصى رحمه الله أن يوزع تركته، وهي ثلاثون نعجة، ويشهد الله ما نسي الفقراء واليتامى منه.
القاضي ينفث هواءً ساخناً، غير أنه يصبر..
ـ فقد أعطى لي عشر نعجات، ولأبواب الخير عشر، وكان رحمه الله ألمعياً حاضر الذهن والقريحة، فما نسيَ وقد ثقل عليه المرض، وهو يعاني سكرات الموت مولانا القاضي، فأوصى له بعشرٍ وهو يقول لقد أفنى مولانا حياته في خدمة الناس.. وما هذه النعاج العشر إلا شيء بسيط نقدمه له..
فاعتدل القاضي في جلسته..
القاضي: (وقد بدا عليه الحزن، وهو يسأل المختار بصوت خفيض حزين) وما كان مرضه رحمه الله؟
المختار: عافاك الله يا مولانا من كل مرضٍ وداءٍ، لقد أصابه السلّ والإسهال، فمات بعد ذلك بأيام..
القاضي: (للمدعين وقد رفع صوته) لقد والله استقام المنسم، وبلغ الحق مقطعه، وما أراكم إلا من أهل الأهواء والضلال، قد بلغ الحسد من قلوبكم مبلغه، وركب الشيطان عقولكم فعشعش بها وباض، وكما قال أولنا: عقل العاطل مسكن الشيطان.. فهلاّ التفتم إلى شؤونكم وخاصة أعمالكم، وتركتم الناس وتتبع العورات، ألا تنتهون حتى يكشف الله ستركم ويفضح سرّكم؟ فما أصنع بكم الآن؟
المختار: أعف عنهم يا مولانا، غفر الله لهم، فإن المرء لو كان أقوم من قدح لوجد له غامزاً..
القاضي: أليس الكلب خلقاً من خلق الله تعالى، له نفس وروح، فإذا مات أكرمناه.. ثمّ ألسنا وهم من جرثومة واحدة، وشجرة واحدة تشعّبت أغصانها وأفنانها، أبناء عمومة، نحن وأياهم إلبٌ على من سوانا، فما هذه العجرفة الفارغة والتطاول القبيح؟
المختار: ولكنه رحمه الله لم يكن يؤمن بنظرية داروين..
القاضي: الله أكبر.. وهذا من تمام عقله وسعة إدراكه.. واللعنة على داروين ونظريته العرجاء!
المختار: والآن يا مولانا؟
القاضي: الآن.. تذهب أنت، وسنلحق بك إلى العزاء..
انتهت..