فوق سريرين كنا ... والقلب واحد
محمد نديم علي
وصلني وأنا على فراش المرض نص رسالة الأديب العالمي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز.
قرأتها مرات ، وكنت أرى فيها ذاتي وعالمي المحيط ، وكل من يعيشون حولي، قرأتها وكأنني أمليها عليه أو الذي يمليها علي ، قرأتها وكأنني أنطقها بلسانه أو هو الذي ينطقها بلساني ، قرأتها واكتشفت كم نحن مساكين ، مغرورون ، تائهون ، ضائعون ، ولا نصحو إلا ساعة أن تهرب منا خيوط الحياة وتنفلت من بين أصابعنا كالماء الهارب.في هذه اللحظات التي قد نشعر فيها أننا نودع الحياة ، تتابع صور ما عشناه كشريط سينمائي متتابع سريع الإيقاع ، وتتملكنا معها مشاعر متداخلة ، لحظتها نشعر كمِ أخطانا ، وكم أهملنا وكم تناسينا ،وكم تجاهلنا ـوكم كتمنا كلمات كانت يجب أن تقال، وكم تلفظنا بغيرها كان يجب ألا نقولها ، وكم خسرنا بحماقاتنا راحة البال ، وكسبنا بغبائنا المزيد من الهموم.
قرأت النص بل عشته بكل جوارحي ، واكتشفت أننا لم نتعلم شيئا في خضم حياتنا الصاخبة ، وأن لحظة هدوء وتأمل صادقة وبسيطة أروع من كل الأزمنة التي عشناها ونحن نتصارع دون رحمة .
رأيتنا جميعا في خضم صراعنا المحموم ، ندوس الزهور، ونمزق أواصر الحب بيننا ،ونكسر آنية الماء رغم أننا في زمن العطش ، وندمر أحواض القمح ونحن نعاني الجوع، وتخنق أيادينا العصافير الصغيرة ونحن نتوق إلى نغمة جميلة، وندنس قلوبا كثيرة فتحت أبوابها لنا دون قيد أو شرط ، ونشوه مرايا الحقيقة بسواد الكبر والغرور وعدم التحلي بالصبر والحياد والتسامح والغفران.
تمنيت لو تعود بى الأيام لأعيد تشكيل ما أفسدته يداي.وأعيش تفاصيل حياتي ببساطة أكثر وحب أكثر وجمال أكثر ، وكراهية أقل.
في لحظة فارقة بين الحياة والموت، أدركت مدى غبائي ، أدركت أنه لم يكن لي يد في لقمة تلذذ ت بها، ولا إرادة في ملبس تباهيت به ،ولا قدرة علي صحة كنت اعتد بها.كلها كانت هبات من يد الرحمن ،لكن غروري أوحى لي ، أنني قد أوتيتها على علم عندي.
قرأت ماركيز وكأنني أقرأ ذاتي التي أدركت كم أن عظمة الحياة في بساطتها ، وقيمتها هي فعل الخير فيها دون انتظار مقابل،وأن علي التمتع بروح الجمال التي تحوطني وأنا عنها من الغافلين.
في لحظة فارقة بين الحياة والموت، أدركت كم أنا ملوث وحقير.
كم تمنيت لحظة سجود صافية فوق بساط من العشب الأخضر تحت سماء زرقاء ،برادئي الأبيض ، وعطري الزكي ، وجسدي الطاهر ، وعقلي الصامت إلا عن التفكر في الله ، وقلبي الذي لا ينبض سوى باسمه الأعلى ، لحظة تذوب فيها ذاتي في ذاته العليا.
حين رأيتني في مرآة الحقيقة ، كنت كائنا ذاهلا ،ذابلا كعود قصب ممصوص.
فقرأت ماركيز ، ورأيتني في مرآة حروفه ، كائنا جديدا أدرك معنى الدرس ، ورغم ضعفه الجسدي إلا أنه يملك قلبا يسع العالم كله طالما بقي في صدره نفس يتردد.
.متشبثا بآخر خيوط حياته ،وتتملكه إرادة أن يعيش كل ثانية في ما تبقى له من عمر، بكل ما يملك من قوة الروح التي حباها الله له.ليثبت أنه إنسان حقيقي، يدرك سر الحب والخير والجمال ، قبل أن يمضي كما مضى السابقون.
رسالة من فراش المرض
بقلم غابرييل غارسيا ماركيز
على فراش المرض، غابرييل غارسيا ماركيز، بعدما أنهكه الداء الخبيث، كتب رسالة إلى أصدقائه ومحبيه سرعان ما انتقلت الكترونياً إلى ملايين الأصدقاء والمحبين حول العالم. هنا ما جاء في الرسالة بحسب الانترنت:
«لو شاء الله أن ألا يجعلني دمية من خرق, وشاء أن يهبني حفنة حياة أخرى، سوف أستغلها بكل قواي. ربما ما قلت كل ما أفكر فيه لكنني حتماً سأفكر في كل ما سأقوله. وسأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نوم خسارة لستين ثانية من النور. وسوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام، لو شاء ربي أن يهبني حفنة حياة أخرى سأرتدي ملابس بسيطة واستلقي على وجه الأرض عارياً ليس من جسدي وحسب بل من روحي أيضاً، وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.
للطفـــل ســـوف أعطي الأجنحة، لكنني سأدعه يتعلّم التحليق وحده، وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتي بسبب السنّ بل بفعل النسيان.
لقد تعلمت منكم كثيراً أيها البشر... تعلمت أن الجميع يريدون العيش في القمة غير مدركين أن سرّ السعادة في كيف نهبط من فوق. وتعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى يعني انه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف.
بل تعلمت منكم أكثر! لكن، قليلاً ما سيسعفني ذلك، فما أن أنهي ترتيب معارفي سأكون على شفير الوداع.
قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه.
لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة أراكِ نائمة كنت آخذك في ذراعيّ وأصلّي أن يجعلني الله حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها دقائقي الأخيرة معك لقلت «أحبك» ولتجاهلت، بخجل، انك تعرفين ذلك.
هناك بالطبع يوم آخر، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل خيراً، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير أحب أن أقول كم أحبك، وكم أنني لن أنساكِ. لأن الغد ليس مؤكداً لا للشاب ولا للكهل. ربما هذا آخر يوم نرى فيه من نحب. فلنتصرّف، لئلا نندم لأننا لم نبذل الجهد الكافي لنبتسم، لنحنّ، لنطبع قبلة، أو لأننا مشغولون عن قول كلمة فيها أمل.
أحفظوا قربكم ممن يحبكم وتحبّون، قولوا لهم همساً أنكم في حاجة إليهم، أحبوهم واهتموا بهم، وخذوا الوقت الكافي كي تقولوا: نفهمكم، سامحونا، من فضلكم، شكراً، وكل كلمات الحب التي تعرفونها.
لن يتذكر أحد أفكاركم المضمرة، فاطلبوا من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهنوا لأصدقائكم وأحبائكم محبتكم لهم».