أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: قطار الحواديت

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 926
    المواضيع : 190
    الردود : 926
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي قطار الحواديت

    قطار الحواديت
    &&&
    . من أجل لقمة عيش بكرامة، نحن جميعا على سفر.فمنذ عودتي نهائيا من هجرة اختطفتني إليها في مقتبل شبابي، أعزبا، حالما بكل ما يبتغيه فتى، نال شهادته العليا بعد عناء.في وطن خارج لتوه من عقود من المعارك الطاحنة، تاركة شوارعه غارقة في مياه الصرف الصحي، ووسائل نقل متهالكة، ومتاجر تئن من نقص المنتجات، ومخابزه تشكو شح الدقيق ، ومصانع شبه خربة، بعمالة منهكة،وآلات صدئة، ومشافي بلا دواء. وأينما وجهت وجهك ، ترى طوابير من البشر... في كل اتجاه. وعدت ليستقر بي المقام في أرض بلادي ،عدت بالشيب، وزوجة وولدين، ومزيد من القلق.
    وهكذا بدأت رحلة جديدة في استكشاف المدينة، ورحت أتجول كالغريب في شوارعها ، وأحيائها؛ مدينتي التي تمددت إلى عمق الحقول المحيطة ، وتبدلت اتجاهاتها ومنافذها، وبيوتها، حتى أحياؤها القديمة،وأسواقها القديمة، كل شيء قد تغير،حتى البشر، إلا بعض مبانيها الحكومية العتيقة.
    &&&
    كنت في زيارة أخت لي بالعاصمة،ورجعت قافلا إلى محطة القطار الرئيسية. وأنا أتلفت كسائح غريب. أخذته الدهشة من تغيرات مدهشة، في مكان اعتاد على زيارته في الماضي.
    وانقطع عنه منذ عقود. اجتزت عواصف الصخب، وزحام البشر والعربات، وصراخ الباعة، عبر مكبرات صوت بنداءات آلية متكررة، مسجلة سلفا، ومستفزة للأعصاب.
    كل هذا الصجيج الذي يزلزل الكيان، لا يترك لك فرصة لاستكشاف المكان، أو الوقوف على حركة تطور العمران، أو الاستمتاع بجولتك التسويقية، دون أن تصاب بالغثيان.
    خاصة لإنسان نشأ في مدينة صغيرة، هي إلى القرية الكبيرة أشبه ، وأكثر التصاقا بمحيطها الريفي الجميل.بحقوله ومواسم حصاده،وسكانه، وتجاره، الذين لم يبتعدوا كثيرا عن روح الريف وطرائق معيشته، ومظاهر حياته.
    $$$$
    عندما اقتربت في تلك الظهيرة ،من محطة القطار الرئيسية بالعاصمة الصاخبة.
    خطر في بالي سؤال ، كان بمثابة اقترح مفاجيء من عقلي الذي لا يهدأ، لماذا لاتستقل قطار الضواحي إلى مدينتك في وسط الدلتا؟ ها أنا ذا داخل المحطة ، التي سأجتازها إلى الناحية الأخرى من الشارع ، إلى حيث محطة حافلات المحافظات.
    كان الاقتراح مغريا وله أسبابه الموضوعية. أولا ،محطة الوصول تقع خلف المنطقة السكنية التي أقطنها تماما، حيث يمتد شارع مستقيم بين الحقول الخضراء ، لا يتعدى طوله الكيلومتر، تتراءى لي، أمام ناظري على البعد، شرفات شقتي في ذلك البرج الذي يقع في الحي الفاخر، في نهاية الطريق.
    إذن لماذا لا أوفر الوقت والجهد وأجرة التاكسي الداخلي من موقف الحافلات ،الذى يبتعد عن بيتي عدة كيلومترات.
    ثالثا ، كنت شغوفا جدا بتجربة تلك الوسيلة التي اعتدت أن أمتطيها جيئة وذهابا ، في صدر شبابي قبل أن تأخذني شواديف الهجرة، وسنوات الاغتراب. اشتقت لذكريات حميمة، حين كنت أترك لنفسي أن تسرح في خيال الأحلام والتطلعات على صوت هدير القطار، حتى تأخذني غفوة، ربما تفوتني معها محطة الوصول ، لأنزل في المحطة التالية. كنت متحمسا أن ألتقي بتلك الوجوه ، والأحاديث الودودة والحواديت القديمة.كل ذلك قد نشأ من حالة اعترتني منذ وصولي للاستقرار بوطني، بعد رحلة سفر طويلة؛في بلاد لا قطار فيها، ولا حقول خضراء، تقودني رغبة تملكتني لاسكتشاف المكان والإنسان من جديد!
    &&&
    كنت وحيدا على المقعد المتسخ ،،، إلى جوار نافذة أكثر اتساخا ،،، محطمة الزجاج ،،، كانت رائحة البول البشري تعم القطار .
    مر الوقت بطيئا! ساعتان ، ولم يتحرك القطار . وعندما أطللت برأسي مستفسرا من أحد العاملين مارا بالرصيف:
    - (متى سيتحرك القطار؟)
    - (الساعة ٤ ونص.)
    سمعت الإجابة من ظهره ، إذ لم يسعه أن يعيرني التفاتة!
    -لا فائذة إذن ، لقد تورطت، فلم يبق سوى نصف ساعة.لا مفر من الانتظار.
    تقاطر الركاب واحدا بعد الآخر ،،،حتى حشرت إلى النافذة ،،، كانوا مجموعة من الصبية ( الرجال ) ، نعم صبية و شباب ، بدت على ملامحهم علامات الإصرار والرجولة والكفاح, بملابسهم الرثة ،،، ثم بدأ كل منهم يحكي حكايته .
    &&&
    الفتي عرفان :
    حين بدأ حكايته ،،،، كانت يده تعبث بجانب المقعد ( الجلدي ) ،،، !
    وعندما سألته متعجبا عما يفعل.
    (يا سيدي قد يخرج عليك فأر من هنا أو هناك ،،، فلا تستسلم لشيء طري تستند عليه يداك في هذا القطار !! )
    ضحك بطفولة بريئة ،، وطيبة قلب عضه الفقر والجوع ،،، وظلم المدينة الكبيرة .
    وايتىنف حديثه بحماس :.
    (أمي فلاحة.
    كانت تعمل في بيوت الأثرياء ،لكنها، يوما ما ، دخلت علينا غاضبة، ثم ضمتنا إليها وهي تبكي بحرارة. ولم تعد تذهب الى تلك البيوت مرة أخرى.
    تركنا أبي ،،، وجاءنا خبر غرقه مع المهاجرين عبر البحار .)
    كان الفتى يسرد قصته مع ظروف البطالة وأمه ، وكلماته تتدفق من فمه دون ترتيب أو تدقيق أو حذر.
    (أعمل هنا في مؤسسة حكومية بعقد مؤقت براتب 150 جنيه شهريا ،، باعت أمي القيراط الذي تملكه مضطرة ،كي يدخل في أملاك المالك الكبير ، بثمن بخس، ،،رشوة لمن وفر لي هذه الوظيفة ،،،، تستقطع مني أيام الغياب والمرض ،، والأجازات الرسمية ،والأعياد ،، ولا نملك سوى هذا القليل ،، مصدرا للعيش .أرفض أن تعمل أخواتي الخمس عند الآخرين !! فأنا الرجل بينهن والمسئول عنهن .)
    أغلقت هاتفي المحمول وأخفيته في جيب بنطالي ،،، خجلا منه ،،،! .
    &&&
    الهاتف النقال يرتجف بلا صوت في جيب بنطالي، أدركت أنني قد تأخرت عن موعد الغداء. إنها زوجتي تلح في الاتصال، لعلها الآن تضرب أخماسا في أسداس. فينتابها القلق بعد ثلاث اتصالات لا أكثر، وعندما أرد تقذفني بسؤالها العصبي :
    أين كنت .. أنا اتصل منذ ساعة.
    لماذا لا ترد؟!
    عادة ما كنت أتعمد الرد بنفس النغمة والحماس ، لكن مع الخبرة أصبحت لا أبادلها انفعالات بانفعال، ولا أدخل معها في منافسة عصبية
    فإن ذلك لن يزيد المشكلة الا سخونة واشتعالا، والخلاف إلا تفجرا، وتعقيدا.
    وهكذا كنت أمتص تلك العاصفة الانفعالية، مبادرا بكلمة رقيقة ،. أعبر بها عن خالص حبي وتقديري ، أو بنكتة عابرة. فتهدأ العاصفة وتنتهي إلى ضحكات ،
    ودعوات بسرعة الرجوع إلى البيت بالسلامة.
    &&&
    إنه الغداء اللذيذ إذن، طبيخ ,ولحم طير وفاكهة مما يشتهي الإنسان!
    فهي لا تلح في الاتصال بي هكذا، إلا وقد أعدت من الزاد ما تفخر به على نساء العالمين. وبالطبع كنت أنا في مقدمة المتطوعين، لتجريب تلك المنتجات المطبخية، كما كنت على رأس طاقم لجنة التحكيم.
    كم أنا محظوظ بتلك السيدة الجليلة، رغم أنني لست من أولئك الرجال المبطونين. فأنا حذر فيما أتناول من أطعمة كما ونوعا، ولا أعطي معدتي الحق في الاعتراض أو فرض رأيها علي فيما ازدرد، خشية من كل عواقب التهام الغذاء، من سمنة ، بسبب أطعمة دسمة، وحلوى غارقة في العسل
    &&&
    جرة العسل:
    كان الصبي جانبي متكئا على النافذة ، وقد أخرج ذراعه خارج القطار، فلما استفسرت منه ،مندهشا ، عما يفعل بذراعه في الهواء،رفع ساعده قليلا، فإذا بيده (زلعة أو بلاص،جرة) صغيرة لكنها من البلاستيك وليست من الفخار.. فلما رأي دهشتي بادرني ، قاطعا السبيل أمام أي استفسار قد يصدر عني ، قائلا:
    (أخذتها ب ٧ جنيهات فقط، نعم ٧ فقط.)
    قالها ونشوة الانتصار تضيء عينيه الذابلتين.
    أين تعمل.
    (في الرويعي .. أنقل ألواح الزجاج من الشاحنات إلى المخزن.
    وهل يمكنك أن تحمل الألواح وأنت بهذا الجسد النحيل؟
    لست وحدي نحن كثر.
    أمي أوصتني أن أجلب في عودتي ،شيئا للعشاء. أخوتي أربعة واحدة أكبر مني،ثلاث أصغر مني.
    أساعد أمي، أنا أشفق عليها.
    تترك أخواني مع كبراهن، وتذهب لعملها، اذ تخدم في مصنع لتعبئة مواد التنظيف في المدينة، وتعود مساء إلى القرية.)
    ولما استفسرت منه ،لماذا تمسك بجرة العسل إلى خارج النافذة.
    (كي يلفحها الهواء، فيبرد، فلا تتخمر وتتلف.)
    كان يشرح لي نظريته بثقة عالم في معمله.
    وكان يحتضن الجرة كأم تحتضن وليدا جاءها بعد طول انتظار.
    &&&
    التلميذ :
    كان أصغرهم سنا، لكنه أكثرهم توقدا وذكاء، ولياقة.
    (أنا تلميذ. رايح إعدادية.
    أعمل لأشتري ملابس للمدرسة.أوفر نصف ما أكسب. وأعطي لأمي النصف الآخر.أبي مات منذ سنين. كان يشتغل مع عمال الترحيل.
    لا ارتضي لأمي أن تعمل خادمة، ولا أن تنزل مع الترحيلة.فأنا أتقاضى تسعين جنيها في الأسبوع. )
    سألته ، وماذا ستفعل عند افتتاح العام الدراسي الجديد.. قال وعيناه تلمعان بالثقة:
    ( ... خليها على الله .ربك كريم.)
    &&&
    ذهلت من نضحهم، رغم عدم تجاوز البعض منهم سن العشرين.كانوا يتحدثون بثقة، وصبر واحتساب. ليس في مخيلة أحدهم رغبة شبابية كما يفعل من في سنهم .
    هل صهرهم الفقر ، وبث فيهم روح المسئولية؟
    ولاحظت أيضا أن معظمهم ، يتكيء على تشجيع الأم، ويدافع عن كيانها وكرامتها، ويحمي أخوات صغيرات. كبروا في عيني. وصغر كثير غيرهم، من شباب لاه ،منعم، تائه في سراديب المخدرات القانلة، والفاحشة المظلمة، أو مستلق على على وسائد الكسل.
    &&& .
    كان القطار يتهادى ببيطء، أحيانا، ومتوقفا أحيانا.بين حذرمن إصلاح على السكة، أو انتظار لقطار مقابل.
    لم أعد وحيدا على المقعد المتسخ ،،، إلى جوار نافذة أكثر اتساخا ،،، محطمة الزجاج ،،، كانت رائحة أخرى هنا، رائحة الوجع البشري تعم القطار؛ رائحة عرق رجال لم يبلغوا عمر الرجال ، ولكنهم بلغوا غاية ما يرجى من الشباب.
    وحين استبد بي العطش، لم أدر كيف اكتشف أحدهم ذاك، وفي واحد من وقفات ذلك الصندوق الحديدي المغلف بالحرارة والدخان والغبار، فوجئت به يقفز الى الرصيف ، راجعا بزجاجة مياه باردة.
    وقدمها لي بابتسامة عريضة.
    - (اشرب ... أم أنك ستشعر بالقرف!)
    وحين وصل القطار لمحطاتهم ، واحدا بعد الآخر، كان يلح علي أن يدعوني إلى العشاء ، بقلب قوي وإصرار كريم.وصدق إنساني، ومشاعر صافية الود قلما تجدها فيمن ظروفه أكثر رحابة من ظروفهم.
    وكان وداع الواحد منهم لي ، حميميا ورائعا. مع التأكيد على العبد لله ، بأن لابد أن ألتقيهم يوما ما.
    (وحياتك يا أستاذ .. لازم نشوفك قريب.)
    بين انطلاق القطار في ذلك المساء ، وبين وصوله لمحطتي ، امتد الوقت ليصل إلى الحادية عشر مساء.
    كانت المحطة شبه فارغة، والواصلون الهابطون قليلين.
    أحسست بأن صدري أيضا قد فرغ من هموم مزيفة ،كنت أحملها لأسابيع. تماما كما فرغت بطارية المحمول في جيبي من شحنتها الفاعلة.اتخذت طريقي في الشارع الممتد من المحطة إلى بيتي، وحقول الذرة على جانبي الطريق، ونسائم صيفية عابرة ، تحيي في النفس شجونا، وأحاسيس جديدة ،نحو المكان والإنسان.

    ٢٠١٦

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,314
    المواضيع : 323
    الردود : 21314
    المعدل اليومي : 4.93

    افتراضي

    تحمل المسئولية والفقر والمعاناة والشدة تخرج رجالا أقوياء ناضجين يصنعون الرخاء والترف
    بينما الرخاء والترف قد يكونا سببا في ضياع الشباب بالتكاسل
    أو في التيه بين دروب المخدرات وارتكاب الفواحش.
    قصص جميلة لشباب يحاولون أن يحفروا في الصخر بأظافرهم بهمة عاليةوبعزيمة قوية
    وثبات لا يلين ليشقوا طريفهم في الحياة أملا في الوصول إلى حياة كريمة لهم ولأسرهم التي تعتمد عليهم.
    قصة معبرة وهادفة تجمع بين جمال الفكرة وجاذبية السرد وبراعة التصوير
    بنفس قصصي وأسلوب مائزين.
    دام لك الألق والإبداع.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 926
    المواضيع : 190
    الردود : 926
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. نادية الجابي ...
    دام ابداعك هنا وقراءاتك الواعية.
    تحياتي وودي.
    دمت بألق.