أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الصكالانص

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 925
    المواضيع : 190
    الردود : 925
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي الصكالانص

    الصكالانص
    قادما من غربتي في عطلة منتصف العام... غادرت مطار الوصول... قبل الفجر بساعات قليلة...كان هناك عم عبد الصمد... ينتظرني في ساحة انتظار سيارات الأجرة.
    ألفت الرجل وألفني، واعتدت عليه واعتاد علي. وصرنا نلتقي كأصدقاء ، في رحلتي الوصول والمغادرة.
    كنا عند مدخل طنطا من جهة الإسكندرية... الشتاء رهيب، والجو ملفع بضباب وصقيع.
    عرج السائق الصديق ،نحو ساحة من الأرض، يبدو أنها حقل مهجور على جانب الطريق السريع ، به مقهى خشبي ، تلفه أستار من البوص والخيش،ويخدم الزبائن فيه ، ملثم يتحرك بنشاط ملحوظ، مقدما الشاي والقهوة، والشيشة.
    -بعد اذنك يا حاج.ناخد حاجة تصحيني على الطريق.هنا بقى في هذه (الغرزة) بيعملوا أجدعها (صكالانص) في البر كله.
    احتشدت في المكان شاحنات وعربات، وتجمع سائقوها طلبا لذلك (الصكالانص).
    - ده خليط ممتاز من القهوة والشاي السادة. يجعلنا مفتوحي الأعين على الطريق لساعات طويلة.
    شدتني اللحظة، ودفعني حب الاستطلاع نحو تجربة ذلك الإكسير، الذي راح صديقي السائق يحتسيه بتلذذ واضح.
    كان شيئا مرا، يثير الغثيان.
    فسألته .. أنت لسة حتشرب شيشة؟
    - لا لا .. أنا معايا دخاني ... وسألني ها ... إيه رأيك؟ سألني صديقي السائق، وهو يمتص دخان سيجارته الشعبية بنهم واضح.لم أر فيه سوى أحمق، راح يتلف رئتيه بحماس شديد.
    - ماشي الحال ..
    - أكملت كوب ذلك الصكالانص بصعوبة. جف حلقي.. وفتحت زجاج السيارة إلى جانبي متلمسا نفحة من هواء. عطست بشدة. ضممت أطراف ياقة معطفي الفاخر. ولممت ساقي ،استدفاءا من صقيع يسكن تحت قدمي.
    &&&
    كان جبل من الملل ، يرخي بثقله علي.وكنت مؤرقا بطاقة سلبية من عدم الرضا بوظيفتي.التي حملتني إلى السفر الذي لا ينقطع، وحرمتني استقرارا في وطني لسنوات طويلة. فما إن أصل لبيتي، حتى أستعد للرحيل. وما بين الوصول والارتحال ، هموم ، وإجراءات ، ومسئوليات.
    وكلما توغلت في الهجرة، كلما ساءت ظروف الوطن الاقتصادية، وهكذا كان علي التوغل والازتحال إلى ما لا نهاية.
    &&&
    أنا بين رحي حجري الطاحونة.. غربة يحوطك فيها بها الرغد ،وبها كل العناء. ووطن به الجذور،ولكن يطاردك فيه شبح العوز.
    أي عناء ذاك الذي لا يفارق تفاصيل حياتي؟ وأي جهد خارق علي أن أبدله كل ساعة من ساعات اليوم الدراسي الشاق في بلاد ، لا يرى طلابه فائدة تذكر من معاناة التعليم والتعلم؟
    عقول لاهية، لحستها بهرجة الثروة، والغنى الفاحش. علي الآن أن أغرس فيها علما تعلمته، وقيما حملتها في ضميري ووجداني ، وصلتني عبر الأجيال.
    كنت أهتف أمام طلابي بفخر وحماس:
    (شهادتك العلمية هي سلاحك.هي مستقبلك.)
    (لم أنس يوم أن قاطعني تلميذ يرتدي العقال:
    (أستاذي عفوا .. رغم شهادتك العلمية .. فأنت تبحث عن عمل خارج وطنك ...
    أستاذ ... أنا عندي كل شي ... فلماذا أتعلم؟ عندي سيارة ليست عند رئيس جمهوريتكم!)
    &&&&
    كنت وما زلت مرهقا، ساخطا. ما الذي يدفعني نحو هذا العناء المميت لي على الأقل.لا أخفيكم سرا بأنني قد سئمت وظيفتي، رغم أنها باب كل رغد أحياه، وسبب كل واجهة اجتماعية أتصدرها.
    فها أنا ذا أرتدي فاخر الثياب وأشهر العطور، والساعات المرصعة بالألماس، أجوب ألموانيء وأمتطي أسرع الطائرات. أنزل بأفخم الفنادق، واحتسي قهوتي الغالية في المقاهي الفاخرة، وأقود سيارتي الحديثة، كل ذلك لم يزدني إلا مللا ورتابة.ولي بيت جديد أسكنه.
    هل سبب ذلك هو اعتيادي على تواجد تلك الأشياء في حياتي، حتى أصبحت بديهيات لن تتغير ولن تتبدل، أم هو السأم النفسي، الذي يصيبني بسبب تخمة النعم والهبات التي يمنحنا الله إياها!
    لا أدري، لكن ما أعلمه يقينا، هو أنني ثقيل القلب، منقبض الصدر، مرتبك الوجدان بهواجس القرف والسأم, وعدم الرضا.
    شيء ما ,لا أعلمه قد سقط مني.
    وافتقده بشدة!!!
    &&&
    اقتربت السيارة من المزلقان، الذي تم إغلاقه استعدادا لمرور قطار الفجر؛ وفلاحة أربعينية ، ذات وجه بدا مضيئا، في غلالة الصبح الذي بدأ في التنفس،وصلت لتوها في المكان على جانب السكة.. وبهمة عشرة رجال، كانت تنزل أقفاص الخضار والفاكهة وتصفها عند الرصيف.. وجلست خلفها مشتملة بنصف بطانية في انتظارا للصباح، حبن يبدأ السوق الأسبوعي.
    نزلت إليها...محكما إغلاق أزارار معطفي الفاخر، ألقيت تحيتي فردت بأحسن منها.ابتعت منها أصنافا عدة.دعوت لها بالخير..فردت الدعوات بأحسن منها. ورغم شعوري بلحظة دفء غريب, إذ عاملتني بود صاف، وبصوت رائق، مفعم بكل نسمات الرضا والصبر والاحتساب، وطيبة هذي الأرض؛ شعرت بأنني أتضاءل .... أتضاءل ... حتى سقطت من معطفي كبرتقالة عفنة عند ذلك المزلقان.
    &&&
    اعتدت بعد ذلك ، في رحلتي الوصول والمغادرة ، أن أشارك صديقي السائق في احتساء ذلك ال ... ( صكالانص.)

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,245
    المواضيع : 319
    الردود : 21245
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    للغربة لوعة وحرقة ـ ثمن يدفعه المغترب خصوصا أولئك الذين يعيشون
    بعيدا عن أسرهم طلبا لحل المشاكل المادية ، ولتحسين وضع أسرهم المعيشي
    وبين الشعور بعناء الأغتراب وبين الاعتياد على ما تقدمه الغربة من مستوى مادي
    مرتفع يلبي احتياجات الإنسان من الرفاهية تصهر أعصاب الإنسان ـ فلا هو قادر
    على الرجوع إلى بلاده والاستقرار فيها لسوء ظروف الوطن الأقتصادية
    ولا هو مستمتع بالحياة في الغربة رغم كل ما تقدمه له من رغد بحياته
    فيعيش حالة من السخط والسأم وعدم الرضا.
    فكان في رؤية تلك الفلاحة التي تعمل بكد الرجال وهمتهم وتحمل
    طيبة الأرض وجودها ، مفعم قلبها بكل الرضا والصبر والأحتساب
    مثالا أعاد له هدوء نفسه فتضاءلت مشاكله أما م كل ما يراه من رضا وسعادة افتقدهما
    فكان شأنها شأن الصكالانص فتحت عينيه على ما كان يفتقده.
    جميل هو الأدب حين يرتدي الواقع حلة ينسجها بجميل اللغة.
    أبدعت فشكرا لك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي