الفاعل مجهول !
لم تكن تظن أن الحياة من الممكن أن تمضى بهذه الصورة المخالفة لكل تصوراتها عن الحياة.
فهي تلك الفتاة التي لم تمنح لعقلها الوقت كي يصبح الطريق أمامها هو طريق الحرية.
ظلت سامية الجندى لفترة طويلة تعتقد أن عقلها أشد عقول البشر فهماً وتفهماً لطبيعتها الخاصة، والمتفردة، فهي لم تولد وفى فمها ملعقة من ذهب..
بل ذهب عقلها من كثرة التفكير في حياتها، منذ أن فقدت أباها عندما اتهم كمناضل سياسي، ورجع جسده إليهم مخضب بالحناء، وقالوا: إنه انتحر هناك.. في العقرب الأحمر..
بالطبع لم يصدق عقلها وقتذاك هذا الأمر.
فأبوها من نوع خاص من الرجال.
مستحيل أن تدور في ذهنه فكرة الانتحار، ولو داسوا على رأسه بجنزير دبابة؛ لذا لزمها الكثير من الوقت ؛حتى تهضم فكرة انتحاره المزعومة، ولكنها رفضت الفكرة بإصرار مميت.. بعد مدة داخت على صحف المعارضة تبغي الحل، وعندما أصبحت وحيدة أصرت أن تبنى حياتها الخاصة، وأن تشق لنفسها طريقاً في الحياة.. وقتها ظهرت لها بشاعة هذا العالم الذي تحيا فيه.. كان يجب أن تبيع جسدها لتعيش.. هناك في مكتبه العريق على النيل، ذهبت إليه أول مرة.. استقبلها بابتسامة غامضة لا معنى لها تطلع لجسدها الممشوق ولجيدها البديع ثم تمتم وقتها: - أنت تشبهين أباك.. ولكن يجب أن تكون قراراتك وحياتك أشد سهولة ويسر..
لمحت التماعة غامضة في عينيه السوداويين فقالت بهدوء:- أبى كان له طريق، ولى أن أبحث عن طريق لي وسط تلك الحياة..
ازدادت ابتسامته الغامضة غموضاً آخر وهو يقول:- لا أظن أنهم سيصمتون عليك إذا تكلمتِ..
لا يهم، كل شيء لا يهم، فهي تفهم أكثر منهم، أكثر من الجميع.. كم كان يخاف عليها أبوها من تفكيرها الشاذ، وكم حاول أن يعدل من فكرة أنها شخصية منفردة ،متوحدة ذات طبيعة فوق الجميع.. ولكنه فشل..
قالت لنفسها وقتها، العالم أصبح قرية صغيرة، ستصرخ عبرة قنوات الإذاعات المختلفة.. ستصرخ في عنف..
ولكنها تلقت تهديداً منهم، أن تغلق فمها للأبد، و إلا ستلحق بأبيها قريبا..
آثرت الصمت وقتها، ولكنها قاومت ..ونشرت مقالاً فريداً على شبكة الانترنت ،ونقلته إذاعة أجنبية، فكان يجب استضافتها هناك؛ لتتعلم درساً آخر أشد مرارة من جميع الدروس.. خرجت بعدها، والانتقام أصبح هو الطابع المميز لتفكيرها النادر في شخص آخر غيرها..
ولكن رغم هذا كان انتقامها أشد اختلافاً وسهولة.. سيكون الانتقام على شاكلتهم.. سوف تصبح، وتصبح حتى لا يستطيعون أن يمسوها بأذى..
عندما استقبلها في مكتبه هذه المرة كانت ابتسامته الغامضة قد أصبحت واضحة وصريحة وهو يقول:- لقد حذرتك ولكنك تماديتِ إلى أقصى درجة وكان يجب معاقبتك لتستوعبي الواقع..
ضحكت في بساطة غريبة لفتاة حصل لها ما حصل، وقالت:- لقد تعلمت الدرس جيدا سيدي.. وحان الوقت لتمضى الحياة..
وبغتة! ظهرت سامية الجندى في حياته كشخصية ثابتة، ملتصقة به في كل أماكن تواجده..أثار وجودها بجواره آلاف علامات الاستفهام.. ولكنها كانت تمضى بخطى واثقة لا تردد فيها..
اعتاد أصدقاؤه على وجودها ،بل أضفى وجودها نوعاً خاصاً من المرح الغير مفهوم.. ومرت سنوات منذ دخلتْ مكتبه لأول مرة.. وبغتة! تصدرت صورها صفحات الجرائد والمجلات كسيدة مجتمع، وازداد البريق حول اسمها ،وتضخم لدرجة موحشة.. وظهرت حقيقة أخرى، أنها تسير في طريقها بسرعة الصاروخ، ولا أحد يستطيع أن يقف في وجهها الآن..
وفجأة أيضا حصلت على أول قرض ضخم من بنك دون أي ضمانات حقيقية.. قال لها يومها:- لقد أصبحت أستاذة..
ضحكت في استهتار وهو تقول:- تلميذتكم المتواضعة..
انطلقت ضحكاته لأعلى وأعلى وهو يهمس لها:- بل نحن الآن يحق لنا أن نلتمس التعليم لديك..
كانت عواطفها ونفسها تمضى في طريق غامض مزروع بالشوك، ولكنها كانت قد صممت أن تأخذ حق أبيها وحقها منهم جميعا كاملاً وزيادة..
العمر يمضى، وهى تمضى معه.. ومشروعاتها تتضخم ،وتتضخم، لتصبح نواة غريبة في قلب المجتمع.. قرى سياحية، ومزارع دواجن، ومزارع خيول تلك الهواية التي لم تفقدها أبداً، فعشقها للخيول يفوق كل عشق.. تشعر وهي فوق الحصان أنها سيدة القرار الوحيد ،وأنها القائدة لكل ما حولها، وعندما ينطلق الفرس بها في سرعة جنونية ،وقد أطلقت له العنان ،تزداد ضحكاتها علواً ،وتزداد شهرتها بين الجميع كفارسة ممتازة لا قرين لها.. عندما سقط هو في يوم ما حين كان يسابقها، وأطلق ضحكة غريبة من بين شفتيه ووسط تأوهاته قال:- لا سبيل إلى أن أجاريك الآن..
أطلقت ضحكة وهى تتطلع إليه من عل وقالت:- منذ البداية وأنت لا تستطيع أن تجاريني..
وتركته في سقطته، وانطلقت بحصانها في سرعة خيالية مجنونة تقفز الحواجز.. حاجزاً وراء الآخر، ولانت الحواجز تحت سرعتها الجنونية.. وزادت مشروعاتها إلى درجة رهيبة مفزعة وغير متخيلة، وانطلقت في هذا الطريق دون أن تلتفت لثانية وراءها، والطريق يزداد سهولة ويسر ؛كلما زادت مشروعاتها.. الضابط الذي حفظت شكله لسنوات، وكانت تمرن ذاكرتها على صورته صباح مساء..جاء اليوم الذي نفذتْ به خطتها.. تلك الخطة الغير طبيعية لتفكير حي، وتركته بين الحياة والموت.. وجن جنون الشرطة وقتها من المجهولين ،الذين يفقدون ضابط بحجمه رجولته، ولم يصلوا لحل..
هو أيضا فقد الكثير من رجولته ،أصبح كلب، يتبعها أينما ذهبت ،وأينما تكون، ظلّ غبي لخطواتها المجنونة..
وبغتة! بدأت حملة الانتخابات الرهيبة، التي استخدمت بها كل الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، والذي وجدت لنفسها الفرصة؛ لكي تأخذ كرسيا داخل المجلس الموقر.. قفزة أخرى رهيبة..
وقتها قال:- وماذا بعد ؟!
ضحكت باستهتار وهى تقول:- لم يحن وقت بعد، بعد..
وانطلقت ضحكاتها أشد صراخاً في وجهه، ولكنه أدرك أن الوحش بداخلها يزداد نمواً وتنمراً إلى ما لانهاية..
ومرت السنوات الغريبة عليها، وهى تبعد ،وتبعد عن نفسها ،وتضع في خيالها أنها الصورة الحقيقية لأي امرأة..
ولكنها فقدت إحساسها بالتفوق لحظة، وعادت طبيعتها المتمردة للظهور..
وعندما قال لها: إنه مغادر ولم يعد يستطيع الحياة بهذه الصورة الغامضة..
ضحكت في استهتار كالعادة، وهى تقول: كما تحب..
وبغتة! بدأت الأضواء تخفت عنها لسبب غير معروف.. البعض قال: إنها من أمرتْ بهذا..
والبعض تصور أنها لم تعد تستمتع بالظهور، ولكن جاءت الضربة القاصمة بغتة، واحتلتْ صورها جميع الجرائد بلا استثناء..
سامية الجندي تفر بمليارات الدولارات خارج البلاد بعد أكبر عملية نصب في تاريخ الشرق الأوسط..
وقتها فقط، وهى تقرأ المكتوب عنها عبر شبكة الانترنت أحست بالراحة.. لقد انتقمتْ، انتقمتْ بمنتهى القسوة من بلد حرمتها أنوثتها..وانطلقتْ ضحكاتها في استهتار بشع وهى تغلق جهاز الكمبيوتر الخاص بها..
وضحكاتها تزداد صراخاً إلى ما لانهاية .