تربّعت السّعادة على عرش مملكة الأحاسيس، وعقدت اتفاقا وآدم في الجنّة؛ متسربلة بما أُغدق عليها من بركات وخيرات .
حَسُنَت إقامتها، وضربت أطنابها، وتنعّمت وأوّل الخلق البشريّ بسندس العطاء والخير... لكن، لم يدم حكمها، ونُقِضَ غَزْل الميثاق الموقّع بينها وبين مملكتها، حين حاولت سلاسل التّعاسة المنافسة، عارضة وسوستها وإغراءها ممزوجين برحيق ومسك السّعادة، وموشّيين ببريقها ، ونجحت في ذلك، وغرست أنيابها في فكر وحسّ أوّل مخلوقين بشريّين ، فَأزلّهما الشيطان، وارتشفا خمرة الإغراء من كؤوس الخداع، فطُردا من النّعيم خاسرَيْن رغد العيش السّليم !
مذ ذاك الحين أقسمت التّعاسة أن تسلب الجمال والزّينة من أصحابهما حيثما حلّت، وأن تزرع الآلام أينما وطئت، وأن تبذر بذور اليأس والإحباط كيفما تسلّلت .
ثارت ثائرة السّعادة التي حُرمت نعيمها، وأقسمت أن تظلّ المحارب الذي يقف لها بالمرصاد، وألّا تسمح لها أن تعيث فسادا في الأفكار التي تحاول أن تتّخذ منها مهادا... وأقسمت أن تشحذ الهمم، وتريح النّفس، وتشحنها بطاقة الأمل والتّأمّل...
لم تأبه التّعاسة واعتبرت نفسَها الحياة. فلولاها لَما وُجد آدم على الأرض، ولبقيت يبابا ! فقرّرت أن تستوطن حجرات الفكر أوّلا؛ لتنشئ مستعمراتها، وتهدم كلّ مملكة السّعادة وما قامت ببنائه، حتّى بُعَيْدَ طردها من الجنّة؛ وذلك لتثير حفيظتها.
تحاول السّعادة تطويق ما بقي من حجرات الفكر بعد خسارتها الأولى، بكلّ ملائكتها قبل أن تستولي عليها أبالسة التّعاسة الاستيلاء المطلق . وأنّى لها ذلك مع إصرار سهام الأخيرة على التّحدّي!؟... فها هو دم هابيل يُهرق، ويعجز قاتله عن مواراة سوءته... فيقعد ملوما مدحورا...
ولن تسدّ تلك الدّماء رمقها، وراحت تشهر شتّى أنواع السّلاح؛ كي تشبع جشعها منذ زمن قابيل وهابيل، إلى زمن إسماعيل وميخائيل... في وجه الصّغير والكبير.
فها هو الطّفل يعيش هانئا في كنف والديه، ويحسب أنّ العالم ملكه. يجرّ حبال سعادته متنعّما بها أنّى توجّه... يكبر فتجرجره أذيال الخيبة واليأس حين لا يستطيع تحقيق ما يصبو إليه بعد ضياع أحلامه وآماله...
يعشق المرء ويهيم في واحة عشقه؛ قاطفا الثّمار التي تحلو له. فلا يطول هيامه ويثوب إلى رشده؛ حاضنا صخرة واقعه الجديد التي قذفها الهجر والبعد في دربه؛ فيعيش مدغدغا مشاعره بخمرة العشق الذي كان، ومثقلا كاهله بصلف ما هو كائن...
يحرز الكثيرون النّجاح، وينير الفرح عيونهم ووجوههم، ويصرّون على التّمتّع بحرير هذا النّجاح وإبقائه عباءة تدثّر حياتهم؛ إلّا أنّ خيوط هذه العباءة تتقطّع حين تهاجم مقصّات الفشل الأجساد وتبقيها تتألّم آهات، والأرواح التي تتركها تشهق زفرات...
تنعم الأبدان بالصّحّة والعافية، فتسمع أصوات أصحابها لربّها شاكرة، وتفرح وتظنّ أنّ الصّحة خالدة، وما أن يشتعل الرّأس شيبا، وتَهِنُ العظام حتّى تغدو الأفواه صارخة، ولبارئها شاكية، وكأنّا بها للنّعيم الذي عاشته في شبابها ناسية!
وتقبع الأجساد تحت وطأة الآلام خاضعة، ولكن لمصيرها غير راضية...
وتبقى عجلة الأيام بنا دائرة؛ مغدقة علينا أحيانا من خزّ نعيمها؛ وغارسة أحايين من أشواك جحيمها...
فلتصمدي أيتّها الخيوط الحريريّة التي تدغدغ مشاعرنا في وجه تلك الأشواك ووخزها؛ كي نستطيع الإفلات من أنياب شراستها التي تقوّض أركان الحياة، وتفسد علينا مذاقها .