حازت الحُسنيين خلقا وخلقا ، لكن ما ظفرت بالعيش المرئ الذي تقر به عينها كقريناتها بالمدرسة .. أب سليط عربيد نغَّص طفولتها وحرمها نعمة الاستقرار الأسري ، لكن رغم ذلك رفضت الإذعان لقسوة الحياة ، وظلت متمسكة بتلابيب الأمل ..أوَليس اسمها أمل ..كلما هتف أحد باسمها شعرت بنور يسري في روحها يبشرها بأن الأجمل آت.
ذات ليلة كئيبة اشتد الجنون بالأب المعتوه ، فطرد زوجته وابنته الوحيدة من البيت في جنح الظلام ،غير آبه بقسوة البرد ولا وحشة الليل ولا الذئاب الشرسة التي تبحث عن غنائم سهلة ..
طالت ليلتها وأضحت كليل امرئ القيس.. قاتمة وبائسة ،أرخت سدولها لتبتليها بأنواع الهموم .
أمام مخفر الشرطة جلست كعادتها وبدأت تستعيد شريط ذكرياتها ..تذكرت تلك الحياة المرفهة التي كانت تتقلب فيها قبل زواجها، حيث كانت وحيدة أمها ، كل طلباتها مجابة ، لم تذق طعم الحرمان والقسوة من قبل ، وحين بلغت مبلغ الزواج ، تزوجت ابن خالتها ، حيث كانوا جميعا يقطنون في بيت عائلي كبير ..وعاشت فترة من الود والوئام ، وأنجبت هذه الطفلة .. أمل ، لكن بمجرد وفاة الأم تم تطليقها من ابن خالتها وطردت المسكينة من بيت عائلتها ..وكأن القدر كتب عليها الطرد من البيوت أبدا .. وحين علم أهل الحي بنبإ طردها تطوع أحد رجالاته للزواج منها وإنقاذها مما هي فيه .. فتر ثغرها عن ابتسامة ملؤها الإشمئزاز وهي تردد :شتان بين الشهامة والنذالة .
استنجدت الزوجة البئيسة بالشرفاء في حيها ومدرسة ابنتها، حيث تطوع أحد الأساتذة واتصل بإحدى الجمعيات الحقوقية النسائية، وتمَّ انتداب محام لرفع دعوى التطليق.وتكفل مجموعة من الخيرين في المؤسسة بمساعدتها ماديا.
وفي أثناء ذلك حاولت زهرتها الندية "أمل " الحصول على محفظتها التي احتجزها " والدها " مع باقي الأغراض ، لكن ذاك الجواظ رفض تسليم الصغيرة كتبها وهددها بالقتل إن تجرأت على الإقتراب من المنزل ..بل وسيكتب بدمها الشريف على الجدران إن ألحت عليه .
كانت تحكي لنا مأساتها وقد أخذ مني الاندهاش مأخذه وأنا أستمع لها:
صامدة لم تهتز أو تضعف ..
متفائلة لأنها تعلم أن بعد العسر يسرا ..
محبة لوالدها رغم ظلمه وجبروته .
كانت ترى ..وهي الطفلة الصغيرة .. أن أملها الوحيد رهين بتفوقها في دراستها ، لهذا آلت على نفسها أن لاتبكي ولا تيأس ، فكم ذاقت الويلات داخل ذلك البيت ،والحمد لله أنها خرجت منه.
بعد أيام تم رفع دعوى التطليق للضرر ، لكن ظل مشكل السكن يقض مضجع الأم وبنتها ، صحيح أن إحدى صديقاتها استضافتهما بكل حب وترحاب ، لكن نفسها العفيفة التي تعودت العطاء ونبذت الخنوع والخمول منذ زمن ، أبت أن تظل عالة على غيرها ، فحاولت بشتى الطرق كراء ولو غرفة صغيرة تضمها وصغيرتها ، وكان لها ما تمنت ، ولحسن الحظ أن الغرفة تقع بجوار المدرسة ..
أخيرا ستنام بهدوء دون صراخ أو خوف أو تهديد
أخيرا سترتاح من الجلوس أمام مقرات الشرطة حين كان يطردها وصغيرتها ليلا دون حياء .
أخيرا ستولي ظهرها للسنين التي أنهكتها وحملتها فوق طاقتها
هي لا تعرف مستقبلها ، لكنها تمني النفس وهي المؤمنة بأن الله تعالى حق وعدل ، سيجعل العاقبة لها جزاء صبرها وتحملها .
ملحوظة : القصة حقيقية وقعت لإحدى التلميذات بالمؤسسة