فَتّة الحِمّص
جفّ ريقُه وهو يُنادي بصوتِه الأجشّ : " على السّكين يا جبس .. على السّكين يا جبس .." ولكنْ لم يكن واحدٌ من سُكّان الحارة يُقبل عليه ويشتري ، ولو جبسة واحدة ! أطلّ من الشُّرَفِ المُحيطة بعربته - دُفعةً واحدةً - عشرون ، ثلاثون امرأة بدينة قبيحة ؛ وبدأنَ يقذفن جبساته بعُيونهنّ التي تُشبه الكُراتِ الصغيرة ، فكانت تطعنَ جبساته فوقَ عربته الخشبيّة المتهالكـة فتَفْلَعُها وتفضح بياضها ؛ ثم ترتدّ إلى محاجرها ، في وجوه أولئك القبيحات ..
نظر بإحباطٍ شديد إلى أكوام الجبس المفلوق تراكمت على بُعد أمتارٍ فقط من بابِ بيته الأرضيّ القديم ؛ وقد افترّت كل جبسة عن بياضِها المكروه .. وكانت أذناه تلتقط من هنا ومن هناك من النوافذ المفتوحة والنوافذ المُغلقة ، ومن خلف الجدران :
- الله لا يُعوّض عليك يا " أبو خليل " .. الله لا يُعوّضْ عليك يا " أبو خليل " ..
لمح أحدَ الأولادِ الأشقياء يتسلل إلى كومة الجبس ، ويلتقط ربعَ جبسة ثم يلتفتُ يميناً وشمالاً ويُسدّدُ جيّداً باتّجاه صلعته .. ويقذفها بكلّ ما أوتي من قوة ، ويفرّ هارباً من زابوقة الحارة .. لم يزعل ، بل جمع بكفّه العصيرَ السائلَ على وجهه ، وراح يلعقه ويتلمّظ بشهيّةٍ فائقة !
رآها .. إنّها "أم خليل " زوجتُه القصيرة النّمشاء ، بشحمها المتكدّس .. تخرج من باب بيتهم مُلتحفةً بالمنشفة القديمة ، وتهجم مُباشرة على رقبته المُرطّبة بعصير الجبس وبالعرق وتخنقه بكفّيها الصّغيرين وهي تصرخ :
- قُمْ يا خامِل .. قُم .. اترك هذا الجبس الملعون .. فلن يمسّه أحد ، واصعد إلى الأحْراج وأحضر بعضَ الحطب لنبيعه ونأكل ونطعم الأولاد .. قُم لقد متنا من الجوع !!
ردّ عليها وهو يفك كفيها عن رقبته بقرف :
وماذا لو قبضتْ عليّ شرطة الحِراج ، وأخذوني إلى السجن ؟ هل تزورينني هناك ؟ وهل تجلبين لي معك البرتقال اليافاوي .. آه .. كم أشتهي عصيرَ البرتقال اليافاويَّ الباردَ .. المُثلّجَ ..
وجدَ نفسَه عائداً من الأحراجِ في طريقٍ ضيّقة مليئة بالحجارة والأشواك القاسية .. وبالكاد كان يستطيع إظهارَ رأسِه من تحت كومة الحطب ؛ التي كانَ جسمُه الضئيل الناحلُ يتمايل بها يميناً وشمالاً !!
- هل أسمع صوت سيارة الدوريّة ؟! هه ؟ لا.. لا .. مالهم وللحطب .. عليهم لعنة الله .. أريد أن أشرب ، أريد أن أشرب .. أكاد أموت يا أم خليل من العطش .. الثروة الحراجيّة مهمّة لتلطيف الطقس وجلب المطر .. المطر المطر .. أين المطر .. أنا عطشان يا ناس ، أنا عطشان .. "
وأمام باب بيتهم يضع عن ظهره كومة الحطب التي أنقضت ظهره .. وفجأةً يصيح بأعلى صوته : " أوقفوا لسانَ هذه العجوز الخرقاء عني .. أسكتوها .. هل أنا الذي زرعتُ الجبس يا ناس؟! هل أنا بداخله لأعرف ما إذا كانَ أبيضَ أو أحمر ؟! وهي هي نفسُها كانت تقول لي كل يوم : بِعْ على السكين ، بِعْ على السّكين، الكلّ يبيع على السكين بِعْ على السّكين .. سكّين في بطنك يا أم خليل !
جلس على كومة الحطب ، وأخرج من جيبه منديلاً قذراً وراح يمسح عرق جبينه وعنقه .. وفجأة مجموعة من الشباب والفتيان والصبيان والأولاد والنساء حتى شيخ الجامع " أبو مُطيع "! تراكضوا جميعاً من هنا ومن هناك ، وتحلّقوا حولَ عربتِهِ المُعَرّمة بالجبس السليم .. وخرج من بينهم رجلاً يعرفه .. إنّه مُدير المدرسة " الأستاذ فارس " .. استلّ سكيناً كبيراً وراح يصيح :
- جبس على السّكّين ، جبس على السّكّين .. تعالوا إلى جبس " أبو خليل " .. أحمر يا جبس أحمر يا جبس .. ويتدافع الحشد من حوله صائحين :
- أعطني واحدة .. وأنا أيضاً .. وأنا أيضاً واحدة الله يخلّيك .. جبس لذيذ يا سلام .. وكان الأستاذ فارس يشدّ يده على مقبض السّكّين ويُغمدها في الجبسة ، ثم يشقّها نصفين فتنشطر عن لونٍ أحمر فاقع ! وبذورٍ سوداء كالليل الدامس ! ويدفع بها إلى أحدهم وهو يصيح بحماس :
- ذُق .. ذُق الحلاوة .. خذ على حساب " أبو خليل " !
ثم يلتفت إلى جبسة أخرى ويشقّها ، فإذا هي أيضاً حمراء كالدم ! ثم ثالثة فرابعة فخامسة ..
- كُلْ على حساب " أبو خليل " !!
و كان أبو خليل يُراقب هذا المشهدَ الذي يجري أمامه وهو لا يُصدّق عينيه .. إنّه جبس أحمر جبسُه هو أحمر ! والناسُ تأكل منه في الشارع بمنتهى الشّرَهِ والتلذّذِ .. فصاحَ بأعلى صوتهِ :
- أنا عطشان .. عطشان ، اقذف لي قطعة جبس يا أستاذ فارس ، الله يرحم والديْك ، أنا عطشان عطشان ...
أفاق على صوت أم خليل وهي تصيح :
- خذ اشرب .. بسم الله الرحمن الرحيم .. نصحتُكَ مئة مرّة ألاّ تأكل فتّة الحمّص قبل النوم ، ولكن لا فائدة ، تتعشّاها وتنام .. وتأتيك الكوابيسُ !!
**************
- أهل مدينة اللاذقية يُسمّون البطيخ الأخضر : ( الجَبَس ) ، والبطيخَ الأصفرَ : ( البطيخ ) دون إضافة إلى الأصفر . وفي ليبيا يُسمّون البطيخَ الأخضرَ ( الدّلاّع ) ، ويُسمَونه في الإمارات ( يَحْ ) .
- " على السّكين " عبارة مَحكيّة في اللاذقية ، ومعناها أن يفتح البائعُ بالسكين جزءاً من الجبسـة ليراها المشتري قبل أن يدفع ثمنها ، فإذا أعجبته أخذها ، و إلاّ اختارَ واحدة أخرى غيرَها .