ظِل السُور
عندما لاح الصباح وأرتفعت الشمس فى كبد السماء. أرسلت اشعتها الملتهبة فسخنت الأرض واشتدت حرارتها. وصار الجو جافا وسور المسجد الخشبى يرسل طقطقات احتجاج من الأجساد المتكئة تستظل به. تنبعث من مراحيضه تلك الروائح المميزة النتنة من خليط قاذورات أناس مختلفى السحنات، يقطعون جمارهم بما تعودوا عليه . تختلط هذه الروائح بروائح الأبخرة المنبعثة من المحلات التجارية، الملاصقة لسور المسجد الكبير، بخور التيمان لطرد الذباب القادم من المرحاض الوحيد فى منطقة الأسواق. تقام الصلوات وتتلى الآيات على المصلين، تناشدهم بالعطف على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وهم لايدرون من هم. هم الجمع الذى تحرك نحو شريط الظل الذى جاد به السور، استرخوا وتمددوا فوق اسمالهم يفترشونها، وتحركت معهم ارتال الذباب الذى كان ينتظر قدوم النهار ليشاركهم الظل، يلتصق بأجسادهم وكأنهم حجارةٌ صماء، ترتفع أياديهم النحيله يمنةً ويسرة ليهشوه، ولكن لافكاك. أيادى مقطوعة الأكف، والأصابع، وبقايا أرجل قد بترها المرض، يمدونها أمامهم يتسولون بها..وآخرون قد نهشتهم الأمراض المعدية ففقدوا أبصارهم، كل هذا الجمع المُستظل بظل سور المسجد يجمعهم ذلك القلق المُبهم ويسيطر عليهم كلما يأتى النهار. خُلقت بينهم الروابط، ربما رابطة الوطن المبهم متمثلا فى قطعة الأرض التى يفترشونها جوار المسجد الكبير. يتحدثون لهجات مختلفة. ويأتون من بلاد شتى الكل يتسول بلهجته فتسمع أوركسترا الوجه الآخر للحياة :كرامه...كرامه......سلام...خير.. تعلوا الأصوات فتجبر المارة على ادخال أيديهم عنوة فى جيوبهم، يخرجوا عملات معدنيه يلقوا بها فى صحن معدنى أمام المتسول، ربما يكون أعمى أو أكتع . ضجيج السيارات ودخان عوادمها، والغبار الذى تثيرة أقدام المارة المهرولين من هذا الشارع فتلتصق بأجساد هذا الجمع فتتشكل ألوانهم، يعلو السُعال الجماعى فتجد الأمراض موطنها.
ترتبط مجموعة ظل سور المسجد الكبير بسلوك عام منتظم بالنهار، يتماشى مع سلوك المدينة، وإيقاع حيا ة المواطنين. ويظهر نمط هذا السلوك العام المألوف المتبوع لمجموعة ظل السور، رجل أو امرأة. إن شذوا عن القاعدة وأتوا بافعال تخدش الحياء العام نهاراً. ستتوتر أعصاب المدينة وتهتزأسلاكها، وتدوى البلاغات يأتى النظام، لإعادة الأمور لنصابها لتهدأ أعصاب المدينة.
عندما تغطس الشمس بعيداً، وتلملم اشعتها الكونيه مودعة النهار. يأتى الليل البهيم بسواده الحالك، إلّا من نجيمات يقفزن هنا وهناك، على صفحة السماء الحالكة السواد، والقمر الخجول متوارى خلف السحب التى ازداد الليل بها ظلامًا. تهدأ أقدام المارة ويهدأ ضجيج السيارات. وتتلاتشى الأبخرة المنبعثة من المحلات بعد اغلاقها، يختفى النظام العام، ويلف الصمت جماعة ظل السور، ويهدأ الغضب والتوتر وتتلاصق الأجساد. تختلط النطاف وتبذر الأجنة، ووكل هذا العرى يلفه الليل الساكن. الذى يُحرك الغرائز ويزحف كل ذكر نحو الأنثى التى تليه، لاوثيقة زواج ولاحب مشتعل، ولكنها الطبيعة تؤدى دورة البقاء، العيون مغمضة تاخذ الغرئز نصيبها، وعند الفجر ، تدب الحياة من جديد بإيقاع المدينة المنتظم.
طَيّوبه المجنونة مواطنة ظل السور. يأتى النهار فتخرج إلى قاع المدينة تتسول، وملابسها قد تساقطت من على جسدها فبرزت مفاتنها. كثيرا ماضجرت منها المدينة، ولكن أعصاب المدينه لاتتوتر لها بها مس من الجنون..يطاردها صبية فى قاع المدينة صائحين :طيوبه المجنونه........ ياها.... المجنونه.
عندما يأتى المساء تأتى طيوبه إلى موطنها ظل سور. وتنزع ماتبقى لها من ملابس. وترقد عارية كما ولدتها أمها. يأتى بعض المارة التى تعبث الخمر بوعيهم، ويرتمون فوقها كالبهائم يطفون شبقهم ويذهبون ربما فى ذات الليلة ياتيها أربعة من الرجال ويبذرون فى رحمها بذورهم ويمضون. كل تسعة أشهر وعشرة أيام يأتى مولودا للظل. صارو ستة أطفال هى التى أتت بهم إلى الحياة . كان أكبرهم، يعتنى بهم ولا يفارق ظل السور. ذات ليلة أختفى فيها كل النور. داهم طيوبه مخاض متعسر. اشعلت الليل بصراخها زحفت النسوة اللاتى يعملن على مساعدة بعضهن فى الإنجاب. ولكنهن فشلن فى اخراج المولود. الذى رفض الخروج لهذا العالم التعيس. كان الرجال يتململون، والكل لم يستطع النوم حتى الأطفال وهى تلعن تارة وتصرخ أخرى، وفى ثلث الليل الأخير، حين بدأ الظلام يتلاشى، مفسحا للفجر اطلالة على استحياء .وكان جموع المصلين قد بدأت فى التوافد للمسجد. هدأ صوتها واقتربت منها احداهن وأعلنت وفاتها. هكذا عبرت روحها المعذبة وفارقت تحمل جنينها فى أحشائها.
لم يعد ظل سور المسجد مسكنًا لابنها الكبير. فقد سئم من تلك العلاقه التى كانت بينه وبين حمدين الفتوة. فقد كان عندما يجّن الليل يأتيه من دبر. نظير توفير لقمة العيش له ولإخوته. و قد رآ ه ذات ليلة والأجساد تتلاصق. يمارس شذوذه مع أخيه الصغير. فهرب الى قاع المدينة حيث بدأ سقوطه المريع مع أولاد الشوارع. ولم يعد إلى ظل السور مسقط رأسه مرة أخرى...
(قص أفريقى)