تحت القصف
أُعلن عن هدنة لساعات معدودة، فقرّرتُ الخروج من البيت متفقّدا الحيّ بعد الهجوم المدمّر على عماراته وأناسه.
بيت جارتنا أم أسعد هو البيت الوحيد الذي لم يُسوّ بالأرض، حيث ظلّت بعض جدرانه محافظة على أجزاء منها، فلامست شغاف قلبي نسمة من فرح، وولّيت وجهي نحوه، وإحساس يطمئنني بأنّ العائلة بخير.
تجرجرني رجلاي، فيما أنفاسي تكاد تتوقّف بعد استنشاق الغازات السّامّة والرّوائح الحادّة المنتشرة في الأجواء، وعقلي يحدّثني بإمكانيّة اغتيالي بقذائف إحدى الطّائرات الرّاصدة لأيّة حركة على الأرض.
الحرارة عالية والرّطوبة تبلّل ثيابي وجسدي الذي لم يذق طعم الرّاحة، ولم يحظ بنعيم الماء منذ أيّام. زحفت لأتمكّن من دخول أجزاء البيت، فثقلت ملابسي المبلّلة بما علق بها من تراب، ووجدت نفسي فيما كان يسمّى المطبخ، ورأيت الثّلاجة مفتوحة ولا شيء فيها.
لاشكّ أنّ أمّ أسعد ملأتها قبل الحرب.. رحت أقلّب ما تكوّم أمامها فلم أجد ما تحتاجه الأمعاء الخاوية!
صوتُ أنين في المكان يكسر هدوء الصّمت الذي شعرت به رغم أزيز الطّائرات، فضاعف من قلقي وخوفي وجمدت مكاني، وأنصتّ لتحديد مصدر الصّوت متسائلا:
تُرى هل هو صوت أحد الأطفال النّاجين؟ أيعقل أن يكون صوت ناصر صغير أمّ أسعد المولود أثناء قصف سنة ثمانٍ وألفين للميلاد ، إثر استشهاد أبيه؟!
انطفأت منارة أعماقي، ولم أعد أرى الصّور بوضوح، لكنّ البكاء دفعني للبحث عن الصّغير. رائحة الموت تزكم أنفي وتكاد تخنقني، ونداءات تطرق مسامعي لا أعرف مصدرها، شجّعتني لإكمال الحبو والبحث، وإذ بي أمام قِطّ بجانب يد تخرج من بين الأكوام، يقترب منها ثمّ يبتعد مصدرا أنينه.. عندما رآني حاول مهاجمتي فأبصرت الدّماء على فمه، قذفته بحجر فابتعد.
إلهي أيعقل أن يكون الدّم على فم القطّ بشريّا؟
لا، لا، مؤكّد أنّه صديق لصاحب اليد ، وأصيب هو الآخر.
عاود القطّ الاقتراب من اليد، وكأنّه يريد سرقة قطعة لحم، فأرعبني أن أتخيّل هذا وصرخت لإبعاده مُتبعا الصّرخات برجمِه بما أجده أمامي.
ويلي عليك يا ناصر إن كانت هذه اليد يدك!
بدأ المكان يدور بي، ودموعي تعجن الغبار على وجهي، وطعم الطّين في فمي رغم صيامي الذي جفّف ريقي، وحاولت جمعه مرارا لأتفّ ما دخل فمي من غبار فلا أفلح. العطش يسلبني قواي، والجوع يلوي الأمعاء، والصّدمة تلزمني مطرحي، ورائحة الموت تكاد تجهز عليّ، فجمدت للحظات أحدّق في لا شيء، وأتساءل كيف سيمكنني الخروج من هنا، وأنا عاجز عن الاستمرار في الزّحف أو الحبو؟!
دعوت الله أن يمدّني بالقوّة.. حاولت رفع رأسي فأوجعني الطّوب فوقه، وأرجعني أرضا.
جلس ناصر في حضن أمّه ولمّا يتجاوز الخامسة من عمره بعد، حين جاءت أمّه لتهنئة عائلتي بتخرّج أخي طبيبا، وعندما أمسك بقطعة الحلوى سألته أمّي:
هل تريد أن تصبح طبيبا مثل جارك يا (شطّور) ؟ فأجاب:
لا، أريد أن أصبح مهندثا ( مهندسا) لأبني لأمّي بيتا أوسع من بيتنا. ضحكنا فشعر بالخجل ودفن رأسه في صدر أمّه.
ها هي ذي يد ناصر تتحدّى الرّكام والإسمنت، وتبقى مرفوعة، لكنّها لن تتحرّك، ولن ترسم خارطة لبيت جديد!
زحفت مرهقا جدّا محاولا الخروج سليما من المكان المرعب، وإذ بيدي ممسكة بدائرة بلاستيكيّة فانتزعتها لأجدها يد وعاء ثقيل. أزحت الغبار عنه، فبدت حبّات التّمر جواهر أشعرتني بامتلاك كنز جرجرته معي، لكنّه أفلت منّي حين هزّت الأرض غارة جديدة، وقصف مجدّد للحيّ، ولم أستطع الجزم بأنّ وقت الهدنة قد انتهى أو خُرقت، فسقط قلبي هلعا لأنّ الغارات تتضاعف مساء، والشّمس الغائبة خلف البحر توحي بأنّ وقت الإفطار يقترب.
إلهي، أرشدني لأخرج من هنا وأعود لعائلتي التي وعدتها بإحضار الطّعام.
عاودت الإمساك بيد الوعاء البلاستيكيّ، وزحفت ثمّ وقفت ألملم أطراف ثوب شجاعتي وقواي الخائرة، وأجبرت رجليّ الرّاجفتين المجروحتين على الثّبات والمشي حتّى وصلت بيتنا، ودويّ الانفجارات يزلزلني خوفا، فوجدت أمّي تنوح وتهذي باسمي، وقد جزمت بأنّ الغارة الجديدة استهدفتني.
حملقت بي بعدما نفضت عنها غبار غيبوبتها، ثمّ نهضت تحتضنني وتشمّني ، ويدي الممسكة بالوعاء لا تسعفني باحتضانها.
جلست وعائلتي في زاوية تحت سقف الأدراج ننتظر لحظة الإفطار، قبل أن أن تزداد دكنة اللّيل بسبب انقطاع الكهرباء، ولمّا هممت بإخراج التّمر تدافع الإخوة مهلّلين ومتسائلين عن مصدره، لكنّني لم أستطع إخبارهم، بل لم يمهلوني لأشرح لهم حين اصطفوا لتناول نصيبهم، ولمّا بدأت بأكل حصّتي غصصت وبكيت صارخا:
سامحني يا ناصر! سامحينا يا أمّ أسعد!
23/ 7/ 2014