لوحاتُ حنينٍ في حقيبةِ سفر
ما كُنتُ أحسَبُ يَومَ اقْتنَيتُ منْ أحدِ أسواقِكَ حَقيبَةَ السَّفرِ، أنَّها سَتتَّسِعُ لكلِّ هذهِ الحُشودِ منَ الحَنين الَّتي تَتزاحَمُ الليلَةَ فيها، فَأجِدُني أرسِمُ لكلِّ مُفتَرقِ ذِكرى في جُيوبِها منْ كَبِدِ الشَّوقِ وشَرايينِ الألَمِ لوحَةً منْ أنين ...
هذا لَيلُكَ الَّذي عَلَّمَني أبْجديَّةَ الضِّياءِ يُطارِدُ غَيماتِ النَّشوَةِ حتَّى حُدودِ فَجرٍ يُصادِقُ على آخِرِ صَفحةِ سَهَرٍ، في كِتابٍ يُؤَرِّخُ لأطوارِ القَمرِ وشَهادَاتِ بَريقِ النُّجوم .!
ذاكَ مَوَّالي الدَّامِعاتُ عُيونُهُ، لا تَسمَعُهُ سِوى بَلابِلَ أشفَقَتْ على حُنجُرَتي منْ شَجَنِ الرَّحيلِ .. احتَجزَتْهُ هُناكَ نَاصِيةٌ شَهِدَتْ بَواكيرَ عِشقِي لِصَباحِكَ، حيثُ صَحَتْ في نَضَارَةِ جَبينِهِ شَمسُ الأمَلِ ذاتَ طُفولَة .!
وتِلكَ نَوارِسُ شَواطِئِكَ، أرجَأتْ رِحلَتَها المَكُّوكِيَّةَ بَينَ الرَّملِ وقَارِبٍ يَجوبُ سُطوحَ المَوجِ، حَامِلًا آهاتِ النَّاظِرينَ إلى رَوعَةِ سَهلِكَ الأخضَرِ البَعيد .. لَعَلَّها أيقَنَتْ أنَّ في رِحابِ حُزنِكَ المَديدِ مَزيجَ نَوايَا، يُؤَجِّلُ جَميعَ نَزَواتِها وتَقلُّباتِها حَتَّى تَتوقَّفَ أنَّاتُ الصَّبرِ، ويُؤذِنَ فَجرُ الرَّبيعِ القَادِمِ بِوقْفِ نَزيفِ الفُصُول !
آهٍ .. هذا جَبلُكَ يقِفُ هُناكَ تَنهَمِرُ منْ عَيْنَيْ شُموخِهِ الدَّهشَةُ، بَعدَ أنْ تَفقَّدَتا جُموعَ الحَاضِرين .. أتُراهُ أضَافَني لِقائِمَةِ منْ يَحنُّ إليهِمْ ؟ أمْ أنَّني ضِعتُ بينَ حُشودِ الرَّاحِلين ؟.. أحَارُ بِأيِّ حِبالِ شَوقٍ أتَسلَّقُ سَفحَهُ المُثقَلَ بِالهُموم .!
وهُنا في قَلبِ عَاصِفَةِ الخَطَايا عُيونُ اليَاسَمينِ تَبتَهلُ، وتُهرِقُ حَسَراتِ الرِّثاءِ المُعَطَّرةَ على أكُفٍّ حَانِياتٍ، أرَّقَهَا أنْ يُحَنِّيَها الدَّمُ السَّاخِنُ الغَزيرُ .. ما زِلْتُ أرَاهُ يَلثِمُ الخُدودَ الَّتي كَتَبَ بالرَّحيقِ على صَفَحاتِها يَومًا تَاريخًا استَغْرقَ في مَاضٍ قُدَّ منْ نُور .!
وذاكَ نَهرُكَ يَكادُ يُفصِحُ لي منْ هُناكَ : كُفَّ عن البُعدِ يا أنتَ، يُجَفِّفُني الحَنينُ رُغمَ كلِّ عَبَراتِ الجَالسينَ على ضِفافِ اشْتياقِي، وعَويلِ النَّواعير .. كُفَّ عن البُعدِ إنِّي أموتُ حَنينًا إلَيَّ وأنتَ تُسبِلُ على كَتِفِ مَجْرايَ ألْحانَ العِشقِ وحُروفَ غَدٍ مُترَعٍ بأحلامِ القَصيد .!
أوَ كُنتَ مِثلي غَافِلًا عَمَّا سَتَؤولُ إلَيهِ أحداثُ المَغيبِ؟ أمْ أنَّكَ كُنتَ تُرَوِّضُ صَبْري حِينَئذٍ ؟ أمْ أنَّكَ توقِنُ أنَّ دَورَةَ الشَّمسِ سَتُعيدُ طَورَ وَهجِها فِيكَ، ومَا أعلَمْتَني .. لأنَّكَ تَخشَى عَليَّ منْ صَفَعاتِ إرهَاصَاتِ القَلقِ حتَّى مَوعِدِ بُزوغِها منْ جَديد ؟؟؟