الكريم خليل
منذ قرأت مقالك هذا وانا ابحث لرد ربما يكون شافيا
فى الواقع ان موقفنا الأن لا يختلف كثيراً عن موقف بني اسرائيل الذين مازالوا – رغم حرمانهم من مكانتهم المميزة – يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار. وبالنسبة لهم فإن كلمة التقوى تعني مجرد التمسك بالشعائر الدينية. ولأن الشعائر الجامدة لا يمكن أن تنتج شعورًا حقيقيًا بالتقوى، فهذا هو السبب الذي جعل عودتنا المزعومة للدين لا تنتج الثمار المرجوة. وما أكثر المسلمين شديدي الالتزام والتمسك بكل تعاليم الإسلام!. وبعد انتهاء النزعة الاستعمارية، عادت المساجد تزدحم بالمصلين مرة أخرى، ويزداد عدد معاهد التعليم الديني يوميًا، والعودة إلى جذور الدين أصبحت سمة جلية بين الشباب المسلم في كل أنحاء العالم. على الرغم من ذلك، فإن كل هذه المظاهر الخارجية التي تدل على الرجوع إلى الدين لم تجعل منا أناس يستحقون نصر الله. وإذا كنا لا نستحق نصر الله، فإن هذا يطرح سؤالاً ألا وهو هل يريد الله حقًا هذا النوع من العبادة الذي نراه نحن تعبيرًا حقيقيًا عن تقوانا؟
لتقدير حالتنا المتدنية من الألم والمعاناة تقديرًا أفضل، وذلك مع عدم وجود نصر من الله، فسوف يكون من المفيد أن نذكّر أنفسنا ببني إسرائيل. وهذا ملائم هنا أيضًا، وذلك نظرًا لأن القرآن يحذرنا من خلال إشاراته المتكررة لبني إسرائيل من التقيد بشعائر جامدة لا روح فيها. لقد اشتهر بنو إسرائيل، الذين ننظر إليهم على أنهم شعب معلون وحقير، بالمبالغة في إظهار تدينهم، واعتبروا أنه من الضروري استشارة الحاخامات ورجال الدين بشأن أدق التفاصيل عن أية موضوع. ولنأخذ على سبيل المثال تفاصيل يوم كيبور أو يوم السبت أو الطريقة الصحيحة لذبح الحيوانات (قتل الكوشير)، وبالنظر إلى الطريقة شديدة التأنق التي يتبعها بنو إسرائيل المتدينين للالتزام بأدق تفاصيل شعائر التلمود، يبدو لأي فرد أنه نادرًا ما يوجد شعب آخر في العالم قد تمسك بالدين على هذا النحو المثالي. فما زال بنو إسرائيل يعتقدون أنهم شعب الله المختار وأن لهم الأفضلية على كل شعوب العالم الأخرى في الفوز بحظوة الله، ويعزون ذلك إلى تمسكهم بالتوراة، والتي بسببها احتلوا هذه المكانة المتميزة. وهذا هو السبب الذي جعلهم يؤمنون بأن نصر الله لهم على الدوام شيء مسلم به. وعندما أصبح اليهود في عهد النازية الألمانية هدفًا للكره العام، ووجد شعب الله المختار – كما أطلقوا على أنفسهم – أن الأرض قد أصبحت جحيمًا بالنسبة لهم، تعجب العلماء والمفكرون منهم؛ كيف يمكن أن يرى الله شعبه المختار يواجه هذه الإبادة البطيئة؟ وقال البعض أن التوراة تحتوي على طاقات هائلة كامنة وغير ظاهرة، فيمكن أن يتغير حال هذا الشعب إذا رتلت ترانيم معينة مرات ومرات. ولجأ البعض إلى مخطوطات الشعوذة والتنجيم، بينما أعاد البعض تشكيل علاقاتهم مع مؤلفات الربانيين وأخذ البعض الآخر بزمام المبادرة في تنظيم الترتيل والتأمل الجماعي. ولما ازداد الأمر سوءًا في ألمانيا والأماكن الأخرى بالنسبة لليهود، فقد ازداد رجوعهم إلى الدين وتمسكهم به، لدرجة أنه وجد البعض في معسكرات الاعتقال والموت منهمكين في ترتيل الترانيم الدينية أو التمتمة بالتعويذات في همس. وكان تدينهم الشديد جليًا في الحقيقة المتمثلة في أنه على الرغم من عدم توافر أدنى حد ممكن من الطعام الذي يسد رمقهم أو الملابس التي تستر عوراتهم في هذه المعسكرات، كانوا يشعرون بحاجة شديدة إلى كتب الصلوات (السيدور) التي التزموا بها سواءٌ بشكل فردي أو جماعي، والتي كانوا يحصلون عليها بعد دفع الرشاوى لمسؤولي السجن. وأثناء عمليات التفتيش، كان تصادر هذه الكتب وتُلقى في النيران أمامهم، وكان المتدينون من بني إسرائيل يصرخون ويتشائلون عما إذا كان هذا العالم سوف يفنى في غياب هذه الكتب الدينية. واعتقد بعض النساك اليهود أنه إذا قُرأت أجزاءٌ معينةٌ من التوراة بشكل متكرر مع استيعابها ثم طُلب من الله العون، فإن العون سوف يأتي قطعًا. ويقال أنه في أحد معسكرات الاعتقالات، لجأ أحد هؤلاء النساك إلى حفرة كان يتم إلقاء الموتى فيها، وظل هذا الناسك منهمكًا في الصلاة والتأمل، وبدأ الناس يطلقون على هذه الحفرة اسم "بيت ميدراش"، إلا أن الله لم يأتي لنجدته على الرغم من كل هذه التقوى والتوبة الصارمة.
هل يوجد دليل آخر على تدين بني إسرائيل أكبر من ثباتهم على ممارسة شعائرهم الدينية حتى في أصعب الأوقات. وإذا ما نجحوا بطريقة ما في العثور على ملابس دينية (مثل التفلون أو التيليت) فإن ذلك كفيل بأن يشعرهم بالفرح والنشوة الشديدة في حياة مظلمة لا تعرف سوى الحزن. وكانوا يرتدون التفلون ويؤدون الصلوات واحدًا بعد الآخر. وكان كثيرًا ما يحدث أنه حتى أثناء الانتقال من معسكر إلى آخر فإنهم يحافظون على دروس التلمود، إذا كان بينهم عالم من علماء الفقه التلمودي. وعندما يرتاحون من جولات مسؤولي السجن في معسكرات الاعتقال، كانوا يجتمعون للاستماع إلى التوراة و"المشنا" يرتلها عليهم من يحفظونها عن ظهر قلب. ويقال أنه في معسكر "مادانك" حيث كان يوجد ثلاثة آلاف يهودي، لم يكن هناك أحد يتغيب عن الاشتراك في الصلوات الجماعية اليومية. وفي أحد الأيام رأوا صفحة من التلمود على كومة من القمامة، فشعروا بفرحة غامرة. واعتاد الحاخام "إسحاق زانبا" في هذا المعسكر أن يعقد جلسات منتظمة يبني فيها حديثه على هذه الصفحة المأخوذة من التلمود. وعلى الرغم من مصادرة كتبهم الدينية في المعسكرات، إلا أن ارتباطهم بدينهم كان عميقًا جدًا لدرجة أنهم كانوا يغلفون أغراضهم في صفحات التلمود. ويمكن قياس مدى إيمانهم بأنه على الرغم من أنهم كانوا يتوقون إلى لقيمات من الطعام فإنهم كانوا يقايضون بها مسؤولي السجن أو يعطونهم أسنانهم الذهبية بفرح شديد في مقابل الحصول على نسخة من التوراة أو نسخة من كتاب الصلوات أو نسخة خاصة من كتاب السيدور. وعلى الرغم من هذا التدين العميق، فلم تكن صرخاتهم من أجل الفوز بنصر الله سوى صرخات تذهب أدراج الرياح. ولم يفلح شعب الله المختار على حد زعمهم في جذب انتباه الله عن طريق إظهارهم لتدينهم بكل ما أوتو من قوة.
وقد زعزع ما حدث في معسكرات الاعتقال في أماكن مختلفة من ألمانيا وخاصة في أوشفيتز ثقة شعب بني إسرائيل جميعهم. ويقال إن النازيين قد قضوا على ثلثي اليهود الأوروبيين. ولم يحدث هذا في يوم واحد. وبينما بدأت قصص معسكرات الموت والاعتقال التي تمزق القلب تظهر للجميع وبدأ يهود أوروبا يدركون أن فناءهم جميعًا بات أمرًَا وشيكًا، فلم يملكوا إلا أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال "هل يريد الله أن يخلي هذا العالم من شعبه المختار؟ وكيف يعقل أن نواجه الفناء من العالم ونحن أتباع التوراة الملتزمين بالتلمود في سلوكهم الحياتي، وعلى الرغم من ذلك لا نرى أي عون من الله في أي مكان؟". بل إن بعضهم بدأ يشك في وجود الله أساسًا. "هل القصة المجيدة عن بني إسرائيل التي يسمعونها دائمًا ما هي إلا خيال لا أساس له في الواقع؟".
وبالفعل، أصاب واقع أوشفيتز الفكر الديني لبني إسرائيل بكارثة؟ وحتى بعد ذلك، لم يكن هذا الشعب الذي يعيش في ماضيه المقدس على استعداد للقيام بإعادة تقييم حياتهم الدينية. ولم يكن هذا هو التحدي الأول الكبير الذي واجهوه؛ فبعد ظهور المسيح والتدمير الثاني لمعبد سليمان ومنذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا، كانت حياة هذا الشعب رحلة من المعاناة والإهانة المستمرة. وأينما ذهبوا، كانوا يتعرضون للإهانة والذل. وما إن يسكنوا أي مكان، إلا وكان عليهم أن يتركوه نتيجة لعداء أهل هذا المكان المحللين لهم. وكان من الواضح أن الله عندما حرم هذا الشعب من بركاته ونعمه أصبح من الصعب على هذا الشعب أن يجد مكانًا مريحًا في العالم بأسره. وقد كان بينهم عدد ليس بقليل من العلماء والمفكرين والفنانين أو الحكماء. فقد اعتادوا على العمل الجاد، ولم يكونوا أقل ممن حولهم في الإنجازات العقلية والوجدانية. وقد عرفوا جيدًا كيف يكتسبون الثروة وكيف ينفقونها. ولكن عندما يقوم الله بحرمان شخص ما من بركاته ونعمه، فليس بمقدور أعقل البشر أن يفعل شيئًا حيال ذلك. وللأسف، لم يستطع عقلاء بني إسرائيل أن يقرءوا الرسالة الواضحة المكتوبة على الجدران. ونتيجة لزعمهم بأنهم الورثة الحقيقيون لداوود وسليمان، فما زال بنو إسرائيل يخدعون أنفسهم باعتقادهم أنهم شعب الله المختار، ولن تكتمل رحلة التاريخ بدونهم. وفي العصر الحديث وبعد إنشاء دولة إسرائيل عندما شنوا الهجمات المفاجئة على العرب الغافلين عام 1967 وسجلوا نجاحًا غير عادي في معركة الأيام الستة، بدأوا يستشهدون بهذا النصر على أن الله قد عاد مرة أخرى ليساندهم.
ولكن ما زال علماؤهم الذين يخافون الله يصرخون من أبراجهم العالية ليؤكدوا أن وجود دولة إسرائيل لا يتفق مع ما جاءت به التوراة، ولا يستطيع أحد أن يجد أي إشارة إلى التعاليم الواردة في التوراة بين هذا الشعب. وتستمد دولة إسرائيل وجودها من الخيانة والاحتيال والقمع والبربرية، حيث تنتهك تعاليم التوراة يوميًا نتيجة للمكائد التي تدبرها الحكومة. كيف يمكن أن يساند الله هذه الدولة المناهضة للتوراة؟ إن الشعوب التي تفضل أن تعيش في الماضي ترفض أن تقوم بعمل أية عملية إعادة تقييم حقيقية، حيث توجه كل جهودهم نحو عرض تفسير للموقف بطريقة تنقذهم من عمل شيء كهذا. وإذا نظرنا إلى القضية بعينين مفتوحتين وعقول يقظة فسوف ندرك أن موقف المسلمين الحالي لا يختلف كثيرًا عما ذكرناه أنفًا. ولسوء الحظ، فقد تعودنا على الاعتماد بكثرة على التفسيرات المختلفة. وبدلاً من الإمعان بدقة في إخفاقاتنا على مختلف الجبهات، فقد اخترنا أن نخدع أنفسنا بالحجج التي تناسبنا والتي تساعدنا على أن نغمض أعيننا عن حالنا الذي يُرثى له.
في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ، إذا أصررنا بعناد، مثلما فعل اليهود، على تفسيراتنا التي قدمنها حسبما تهوى أنفسنا، عندئذ لن تكون نهايتنا مختلفة عن نهايتهم، لأن أفضليتنا، سواءٌ كنا يهودًا أم مسلمين، إنما تنبع في واقع الأمر من التزامنا بالوحي الإلهي. فعندما كان اليهود يتبعون التلمود بإخلاص ظل تفوقهم على العالم لا ينازعهم فيه أحد، ولكن عندما بنوا سياجًا من التفسيرات الكهنوتية حول التوراة، وعندما بدأ التشريع الذي أنتجه رجال الدين يحكم حياتهم الدينيه بدلاً من التوراة، وحازت مجموعات المشنا والجمارا ومجموعات كتب الصلاة وكذلك كتب البركة على المكانة الرئيسية عندهم، عندئذ زاد ضعف علاقتهم بالوحي الإلهي أكثر فأكثر. وأصبح ما تبقى من التوراة سجين الشروح والتفسيرات البشرية مما أدى إلى التناقص التدريجي للإخلاص الديني، بل واختفت التقوى الحقيقية، ولم تبق سوى الطقوس الدينية. وأصبح اليهود متشددين في مراعاة تفاصيل الطقوس، لدرجة أنهم ألّفوا مجلدات فقهية كبيرة حول أبسط أمور الحياة العادية. وقد أثقلت شروح الحاخامات للتوراة كاهل الحياة الدينية لبني إسرائيل، فقد ذهب علمائهم وفقهائم إلى حد أن أعلنوا أنه طالما أن الله قد أوكل التوراة لبني إسرائيل، أصبح لهم الحق المطلق فيه بشأن الأمور المتعلقة بالشرح والتفسير. فقد اعتبر اليهود أن شرح الحاخام أكيفا للتوراة أصدق من شرح موسى له. وهذا الدين الذي أنشأه الفقهاء، يتساوى اليوم مع يهودية الحاخامات دون أية تحفظات؛ وقد يُعرف باسم دين موسى ولكن الحقيقة هي أن علاقته حتى مع ما بقي من التوراة، واهية جدًا. فاليهودية في شكلها الحالي، والتي أسس الفقهاء اليهود معظمها، لا يمكنها أن تنتج نفس التأثير الذي كان لدين موسى؛ فالاختلاف الجوهري بين الدين الفقهي والدين الذي أوحاه الله يكمن في أن الدين الموحى من عند الله موجّه ليملأ قلب الإنسان وعقله بالإخلاص لله جل وعلى، بينما يقع دين الفقهاء في شَرَك الجدال على دقائق الأمور وإظهار الطقوس المظهرية التي لا تخلق إلا إخلاصًا واهمًا. فالوحي الإلهي يضيء التاريخ ويقدم للمستمسكين به مفتاح أسراره؛ بينما يظل الفقهاء والحاخامات، من باب حرصهم الزائد، مستمرون في وضع الزيادات التي لا تنتهي حوله، حتى إن لب الوحي الإلهي يضيع في النهاية مع تراكم هذه التفاصيل. وتدريجيًا يعمل الاعتماد المتزايد على رجال الدين على إبعاد المجتمع عن بهاء الوحي الإلهي، وعندها تكون التفسيرات البشرية للوحي الإلهي والتعقيبات عليه المحرك الرئيسي الدافع للحياة الدينية بشكل كبير. فمصير بني إسرائيل فيه عبرة لنا، حيث يمتلئ القرآن الكريم بقصص حول مصير بني إسرائيل. وإذا اخترنا أن نُبقي أعيننا مفتوحة، عندئذ يمكننا أن نحاول بسهولة ويسر أن نجد إجابة في هذه القصص على سبب حرماننا من المكانة المميزة التي كنا نتبوءها عن حق والسبب الذي جعل الله يحرمنا من أنعمه؟!
مقتبسات من ابحاث شتى - اتمنى ان تجدوا بها الاجابة