لَسْتُ مِمَّنْ وُلِدَ قُرْبَ بَيْدَرٍ وَلا عَاشَرْتُ المِنْجَلَ مُنْذُ رَحِمِ أُمِّي , وَلَسْتُ مِمَّنْ تَعَشَّقَتْ في أَسْنَاخِهِ نَسَائِمُ اصَّاعَدَتْ بُرُودَةً , وَلَسْتُ أَيْضًا مِمَّنْ فَتَحَ عَيْنَيهِ بُعَيدَ وِلَادَةٍ تَحْتَ ظِلِّ سَقْفٍ قِمَاشِيٍّ عَلى مَشْهَدِ قَعُودٍ نَاخَ علَى فِرَاشِ رَمْلٍ دَافِئٍ , وأُذُنَيهِ عَلى بُكَاءِ نَايٍ وَتَذَمُّرِ مَاعِزٍ وَثُغَاءِ حُمْلَانَ وَصَهِيلِ خَيْل ...لا، ولَسْتُ مِمَّنْ ألِفَتْ أسْمَاكُ الشَّوَاطِئِ رَائِحَةَ أجْسَادِهِمْ السَّمْرَاءَ المَمْشوقَةِ ...
أَنَا الَّذِي انْتَزَعُوهُ يَومًا عُنْوَةً ذَاتَ قَيْصَرِيَّةٍ فِي صَفِيحِ إِحْدَى السُّفُوحِ المُكْتَظَّةِ باِلبَاحِثينَ عَنْ بَعْضِ مَأْوىً , وَأَنَا الَّذِي أسْلَسَ لِمَسِيرَةِ الكِفَاحِ فِي شَتَّى الحَارَاتِ والأَزِقَّةِ صَهْوَةَ صَبْرِهِ , بَاحِثًا عَن طَرَفِ مَقْعدِ يُبَلِّغُهُ فِيهِ رُسُلُ الحَرْفِ رِسَالَتَهُم , وَ(ورْشَةٍ) يَتَفَضَّلُ فِيهَا عَلَيْهِ مَسَاءُ اليَوْمِ بِقِطْعَةٍ نَقْدِيَّةٍ تُعِينُ فِي إِعَالَتِهِ .. وَخَارِجَ أَسْوَارِ هذا العَالَمِ ولَيْسَ بِبَعيدٍ , كَانَ التَّرَفُ يَرْفُلُ بِوَاسِعِ أثْوَابِهِ بَينَ شَاهِقَاتِ المَبَانِي ومُنِيفَاتِ القُصُورِ وفَاخِرَاتِ السَّيَارَاتِ ....
لكِنَّني رُغْمَ كُلِّ هذا أعْشَقُ تَغْرِيبَةَ التَّنُّورِ، وصَوْتَ هَسِيسِ اشْتِعَالِ القَشِّ تَسْبِقُ فَوْعَةَ نُضْجِ الرَّغِيفِ , وأطْرَبُ لِلْعَتَابَا والمِيجَانَا تَصْدَحُ بِها حُنْجَرَةٌ لَقنَتْهَا القِمَمُ القُوَّةَ والعُذُوبَةَ مَع الهَوَاءِ النَّقِي ... وَأسْتَلِذُّ بِحَلِيبِ نَاقَةٍ طَازَجٍ، وقَوَامِ فَرَسٍ مَمْشوقٍ، وزَفِيرِ صَيْفٍ مُلْتَهِبٍ, ورَعْشَةِ شِتَاءِ مُبْتَلٍّ، وفِتْنَةِ رَبِيعٍ مُبْتَسِمٍ، وعُرْيِ خَرِيفٍ مُصْفَرٍّ، ويَسْتَميلُنِي رُكُوبُ المَوْجِ والرَّقْصُ عَلى الرِّمَالِ , وَيَسْبِينِي أنِينُ دَوَائِرَ مِن خَشَبٍ تَشْتَكِي لِمَجْرَى نَهْرٍ، فَيُسْبِغُ عَلَى سِحْرِ حُزْنِهَا رَذَاذَ دُمُوعِهِ البَارِدَة، ويَجْذِبُنِي ضَجِيجُ الآلَافِ السَّائِرينَ كَسَيْلٍ يَجْتَاحُ كُلَّ الجِهَات .
أحِبُّ حَكَايَا المَدينَةِ والقَرْيَةِ والجَبَلِ والبَحْرِ والنَّهْرِ والسَّهْلِ والبَادِيَةِ، ووَصَايَا اليَاسَمِينِ والجُورِيَّ وشَقَائِقِ النُّعْمَانِ، وتَأْنَسُ رُوحِي لِلُغَةِ السَّنَابِلِ وهَمْسِ الأَعْنَابِ وبَوحِ الزَّيْتُون .
أُحِبُّ الفَقْرَ ولَا أكْرَهُ الغِنَى , وأُحِبُّ التَّعَبَ ولَا أرْفُضُ الرَّاحَةَ، وأَحِنُّ إلَى الشَّقَاءِ فِي خُطُوَاتِ الوُصُولِ إلَى الرَّخَاء .
أُحِبُّ كُلَّ مَا فِيهِ ومَنْ فِيه، مِمَّنْ لَمْ يَسْفَحُوا جَمَالَهُ فِي غيَاَهِبِ قُبْحِ ظَلَامِهِمْ ، وأَهْدَرُوا مُقّدَّرَاتِ سِلَالِهِ في أسْوَاقِ التَّبَعِيَّةِ المُغَلَّفَةِ بِوَهْمِ الصُّمُودِ، ومِمَّنْ لَمْ تَتَلَطَّخْ صَحَائِفُهِمْ بِارْتِكَابِ دِمَائِهِ النَّازِفَةِ مِنْ وِدَاجَيَّ وشَرَايِينِه .