فوق السحاب
مشهد من رواية: " حكايات أُمّي "
( قيد الكتابة )
فوق السحاب
وقفتُ أجهّزُ حقيبتي بتوترٍ شديد.. رفضُ أبي، وترددُ أمي، وامتعاضُ حماتي، ونظراتُ استجداءٍ في عيون أحمد وفارس، كلّ ذلك لم يثنني عن قرار السفر بعد أن ترك لي كريم حرية اتخاذ القرار..
اتصل بي يوسف وعرض عليّ أن يمر بسيارته ليصحبني إلى المطار، لكنني اعتذرت له على أملٍ أن يرق لي قلب أبي لكن دون جدوى.. جاء صوتُ خالد من الخارج متحمساً :
" هيا نُهى، التاكسي ينتظر عند باب العمارة.."
وحمل الحقيبة الخفيفة بنفس الحماس وسبقني إلى التاكسي.. قبلتُ يد أبي وحاولت استرضاءه وهو معرضٌ بوجهه عني.. استقبلني حضن أمي ومسحت دموعي بيديها قائلة : لا عليكِ، هو راضٍ عنك ويثقُ بكِ..
قبلتني وأسلمتني لذراعي هبة والتي وشوشتني ألا أنسى ما طلبته مني ..
وجاءت اللحظة التي قهرتني وجعلتني أفكر في أن أتراجع عن قراري.. أخذتهما بين ذراعيّ مع مقاومةٍ شديدة من جانب أحمد ..
- " ستسافرين من دوننا؟ "
- " خمسُ أيامٍ فقط .. وأعود إليكما بإذن الله.. هيا قولا لي ماذا تريدان أن أحضر لكما معي؟ "
تركني أحمد قائلاً بعزةٍ وكبرياء : لا شئ ..
بينما بقي فارس ممسكاً بيدي ، يعُد على أصابع كفي ما يريدني أن أشتري له.. وبعينين ملؤهما البراءه نظر لي وهو يمسك بالأصبع الخامس قائلاً :" ثم عودي إلينا بسرعة .. "
استعجلني خالد .. خرجت مسرعة فوجدتُ أمَّ كريم عند باب شقتها.. سلمتُ عليها وقبلت يديها وطلبت منها الدعاء .. دعت لي بالسلامة بصوتٍ يخنقه دخان الغيرة الذي ينمُّ على نيران ظنونٍ تلهبُ قلبها.. أشفقتُ عليها لكني لم أتراجع.
في الطريق إلى المطار، لم يصمت خالد للحظة .. كان يهنئني على ما حققته من نجاح، ويغبطني على الجائزة التي سأتسلمها في أكبر مهرجان في أوروبا لسينما الطفل والرسوم المتحركة. كان يتمنى أن يكون معي .." تباً للامتحانات لولاها لكنت مسافراً معك الآن، ولاصطحبتك إلى أجمل الأماكن في باريس فأنا أعرف أنكِ ستتورعين أن تخرجي مع الأستاذ يوسف.. ولكن حاولي ألا يفوتك زيارة اللوڤر، فلا يمكن لفنانة مثلك أن تكون في باريس ولا تزور هذا المتحف.. في الواقع باريس كلها متحفٌ للجمال ، حاولي أن تخرجي وتملئي ذاكرتك بجمال باريس .." خالد لا ينسى باريس أبداً منذ أن زارها في رحلةٍ نظمتها الجامعة في الصيف قبل الماضي ..
وصلنا إلى المطار فوجدنا يوسف في انتظارنا ، لم يدخل بعد.. صافحه شقيقي بحرارة وأوصاه علَيّ ثم ودعني .. ودخلتُ بصحبة يوسف لاستكمال إجراءات المغادرة.
تذكرتُني منذ عشرِ سنوات، في نفس هذا المكان حيث كنتُ أسير في خجلٍ شديد ... وحدي، بفستان زفافي لا أحملُ سوى حقيبة يدي بها جوازُ سفري إلى المجهول .. وتدور برأسي آلافُ الأفكار و تنهزم أمام مخاوفي فرحةٌ طالما انتظرتْها كلُ فتاة ..
ها أنا اليوم أسيرُ بخطىً واثقة بجانبِ رجلٍ أعطاني كل ما كنت أحلم به وزيادة.. وفي قلبي فرحةٌ لا أستطيعُ وصفها.. أحملُ في حقيبة يدي جواز سفري للأماكن وجواز سفرٍ آخر لعالم أحلامي.
الطائرة تستعدُ للاقلاع .. يوسف يجلس بجانبي.. لأولِ مرة لا تفصل بيننا سوى بضعة سنتيمترات.. أشعرُ به ينظرُ إليّ ولا أجرؤ على رفع عينيّ تجاهه.. أشعر بالسعادة في صوته .. تُري هل هو سعيد للجائزة التي تنتظره كأفضل كاتبِ لسيناريو فيلم للأطفال لهذا العام؟ ههه هو معتادٌ على مثل هذه الجائزة .. أعتقدُ أن سعادته لسببٍ آخر يعرفه كلانا ولا يجرؤ على الإفصاحِ عنه
ها هي الطائرة تحلقُ بنا في الفضاء .. حاملة أحلامي إلى سماواتٍ عالية لم يخطر ببالي يوماً أنني سأبلغها..
تحدثنا عن الفيلم الذي كتبه هو وصممتُ أنا رسومَه .. واستذكرنا الجهد المضني الذي بذلناه مع فريق عمل الفيلم على مدارِ عامٍ كامل كي يخرج عملاً إبداعياً ينافسُ أفلاماً عالميه..
كنتُ أشرد منه كثيراً أثناء الحوار، تأخذني تساؤلاتي الأبدية .. لماذا جمعتنا الأقدارُ الآن؟ ولماذا نجحنا معاً هكذا؟ ولماذا أتعلقُ أنا بالأمل المستحيل .. بيني وبينك حواجزٌ لا تطولها قامتي .. أولها عندي وهو أنني ملكُ رجلٍ آخر وطفلين، وهذا هو ما لا تعرفه عنِّي .. وآخرها عندك وهو أنكَ على دينٍ آخر، وهو ما عرفتُه عنك مؤخراً .