ماء البحر
أدخلوني غرفتها وانصرفوا.. كان الستار مسدلاً على النافذة الوحيدة بالغرفة، ولكنها لم تكن معتمة تماماً، فقد كنت أرى كل شيء بوضوح.. رأيتها نائمةً في فراشها كطفلةٍ كانت تلهو بدميتها حتى أخذها النوم ... كان بجانبها بعض الكتب والأوراق، وفي حضنها إحدى الأوراق...
جلستُ في المقعد المقابل لسريرها أتأملها. يبدو أنه قد بالغ كثيراً في وصف جمالها، أو لعلها كانت جميلة في ذلك الوقت ولكن المرض قد نال من هذا الجمال كما نال من عقلها. وددت لو أن أرى عينيها اللتين كانتا مصدر إلهامه.. مكثتُ في مقعدي أنظر إلى الكتب والأوراق المبعثرة بجانبها دون أن ألمس شيئاً منها.. كانت الكتب كلها على ما يبدو من مؤلفاته، أما الأوراق فكانت مكتوبة بخط اليد.. ربما أنها كانت رسائله إليها.تُرى أيُّ واحدة من رسائله التي قرأناها تلك التي في حضنها الآن؟ ام أنها رسالةٌ خاصةٌ جداً لم ينشرها بكتابه؟
خَفَتَ الضوءُ بالغرفة وغشّى الظلامُ أركانها فخطوتُ على حذرٍ نحو الشباك وأزحتُ الستار قليلاً، لأرى قرص الشمس الأحمر يلملم أشعته ويستخلصها من أحضان موجات البحر العابثة.
- هل أتى؟
جاءني سؤالها المتلهف مفاجئاً، وقبل أن ألتفت نحوها لأستفسر عمن تسأل، وجدتها تقف إلى جانبي وتشد خيط الستار فتزيحه تماماً عن النافذة..
- لم يأتِ بعد!
أجابت هي نفسها بصوت خفيض ملؤه اليأس وخيبة الأمل.
كان نظري مركزاً على عينيها الحائرتين وهما تنتظران مجيئه في الأفق البعيد.. ولكن:
- من هو؟
- صديقه وصديقي! يجيئني برسائله، ويحمل إليه رسائلي.
نظرت إليّ وكأنما أرادت أن تتسلى بالحديث معي حتى يجيء الصديق. أشارت بيدها إلى البحر الممتد أمامنا وقالت:
" هَهُنا نشأت.. كنتُ أجمل حوريات هذا البحر.. كنتُ معشوقة البحارة والصيادين، يعرفون مكاني ويأتون إليّ.. أستمع إليهم وينصتون إليّ ..كنتُ أرى جمالي في عيونهم، ونظراتهم النهمة تتسابق أيها يفوز بالقدر الأكبر من هذا الجمال.. كانوا لا يشبعون، وكانت لا تروي ظمأي بحورُ أشعارهم وأغانيهم..
وفي ليلةٍ كان البدرُ فيها مكتملاً، جاء هو بصحبة بعض الصيادين.. غنّى كل منهم أغنيته وحكى حكايته، لكنّي لم أنصت إلا لأغنيته هو التى لم يسمعها سواي.. ولم أغن إلا له وحده ولم يسمعني سواه.. وحان موعد انصرافهم، تمنيتُ لو أن يذهبوا جميعاً ويبقى هو لنكمل حديثاً قد بدأناه، لكنه ذهب معهم.
لا أدري من أي بحرٍ جاء حديثُه العذب فتركني هانئةً ريانة."
صفقت الأمواجُ وأخذت تعلو وتركض نحو الشاطئ وتعود إلى البحر في صخبٍ وحبور احتفالاً بمجيئ الصديق.. ولم تكن هي أقل صخباً وحبوراً لرؤية القمر إذ برقت الفرحةُ في عينيها و مدّت يديها في لهفةٍ كأنما هي تصافحه، واصطبغ صوتها بألوان البهجة الزاهية : " مرحباً يا صديقي العزيز.. ماذا لديك اليوم من حديث؟ "
لا أدري بم حدثها القمر فجعلها تبتسم، وتتسع ابتسامتها، ثم تضحك ثم تعلو ضحكتها ..ثم تصمت في خشوع كأنها تصغي إلى تراتيل قدسية.. ثم تعود فتشرق ابتسامتها..
ظللت أراقبها وكأني بها بين يديه يلاطفها بدعاباته التي اشتهر بها فتبتسم .. وتغريه ابتسامتها فيزيد في فكاهته فتضحك .. ثم يتلو عليها أحاديث قلبه فتنصت في خشوع...
انتظرتُ معه طويلاً كي أسمع ردها عليه.. لكنها ظلت صامتة.. كنتُ أفهم معاني صمتها، فهل كان هو يفهم؟
- لماذا ذهبت؟ انتظر! اسمع مني!
- الآن تنطقين وقد أعياه الانتظار؟
- كنتُ أظنه يعلم
- كان يعلم .. ولكن ليطمئن قلبه..
- لو كان يعلم لما تركني.. ولو كان قد تركني وهو يعلم، فهذا ما منعني من الرد عليه.. تأبى كرامتي أن أبوح له وأنا أعلم أنه حتماً سيتركني..
- وتأبى كرامته أن يراك تجودين بعذب حديثك على كل من يجالسونك وتضنين عليه ..
- وتأبى كرامتي أن يحبني قلبه كل هذا الحب ويأباني عقله وواقعه، وأنا أحبه بعقلي وقلبي وواقعي وخيالي.. وتأبى كرامتي أن يكون هو كل فصول حياتي، بينما يكتفي هو مني بالربيع المزهر ويخشى صيفي وخريفي وشتائي..
- ها قد اعترفت بأنك تحبينه!
- وتظمأ روحي إلى كأسه العذب، فأذهب إلى البحر لعله يرويني فلا أزداد إلا عطشاً .. وتأبى كرامتي..
فُتح باب الغرفة بحذر:
- كيف حالك الآن؟ يبدو أنك لم تنامي الليلة!
نظرتُ إلى الممرضة في ذهول وهي تشير إلى الفراش مرتباً وعليه حقيبتي وبعض أوراقي..
هنا نور