لا زلتُ أعشقُ التأمل !
أبسط الأشياء تأخذني إلى عالمها ..حفيفُ أوراق الشجيرات المهملة على قارعة الطريق ..خفقةٌ من جناحِ طائر ..غيمةٌ تحوم في السماء ..ربما لا يكفيني عالمٌ واحد .. ولا تسعني أسوارُ مدرستنا القديمة فأسبحُ في عالمي برهـةً ثم أعود ..
كنت ألمحها تلوحُ في سمائنا ، تضربُ الريح بجناحيها فيخلي لها السبيلَ إلى جدارِ مدرستنا المهترئ ..تهوي ثم تستقرّ أسفلَ الشباك خارج قاعة الصفّ ..هناك يقبع تجويفٌ صنعته رداءةُ اليدِ العاملة وعمّقته يـدُ الدهر سنةً بعد أخرى .
تلك الحمامةُ البيضاء كنت أتابعها يوماً بعد يوم ..اكتشفتُ أنها صنعتْ عشّاً أسكنتْ بيضاتها فيه .. كتمتُ أمرها خشيةً عليها وربما استئثاراً بسرّها ..
وأنا لا زلتُ أعشق التأمّل ! .. هو جناحايَ أضربُ بهما فأسرحُ بعيداً عن قاعة الدرس .. كنتُ أسترقُ النظر وأمدّ عنقي من الشباك كلما لاحت الحمامةُ ولاحت لي الفرصة علّني أحظى برؤيةِ فراخها يوماً ما ..
لكنّ ذلك اليوم أذهلني عنْ تلك الحمامةِ وعشّها..
كنتُ كغيري من الطالبات .. أترقبُ زيارتها لقاعةِ الصفّ بعد شهرين من الغياب .. كم شعرنا بالندمِ يصرخُ في وجوهنا بعدما تناقلنا بعضَ الشائعات .. : استقالتْ من العمل بعدما سنحت فرصةٌ براتبٍ أجزل .. آثَرت التقاعد المبكر ..الخ
الحصة الأخيرة أزِفَـتْ ..ولم يبـقَ سوى دقائق معدودة ..كمْ هي صعبةٌ لحظات الانتظار .. لكنها لا رَيب ستلاقينا بوجهها المشرئبّ بالحمرة .. بعينيها الثاقبتين من خلفِ نظارتها ذات الإطار المذهّـب .. كم اشتقنا إليها ، هكذا ! مرةً واحدة تعلقنا بها ..نسينا تقريعها ، قرصاتِ أصابعها.. شدّتها وحرصها الذي كان يحاصرنا ويثقلنا بواجباتٍ ووظائف مدرسية ..
.. ترى هل ما زالت تحتفظُ بنبرة صوتها الحادّ وحزمها الذي عهدناه ..؟
ها هي تدخل بتؤدةٍ وسكينة ..ألقتْ علينا السلام ووقفتْ أمامنا تطالعنا .. نظراتها انهمرتْ كسربٍ انحدرَ من علياءٍ ثم حدّقت طيوره فينا .. حطّتْ على رؤوسنا .. ها هي الآن تقرأ في عيوننا الحزنَ والترقـب ، صمتها كان يحكي الكثير ..يستفزّ ما خمدَ في قلوبنا ..يهيّج مآقينا ،أطرقتْ ..،كانتْ أول إطراقةٍ منها.. وأول دمعةٍ تسقي حمرة َخدّيها كفيلةً بأن ننشجَ بالبكاء ..كنّا تعاهدنا برباطة الجأش أمامها ..لكننا سرعان ما تهاوينا أمامَ سطوة عينيها النازفتين.. يا لمقادير الزمن !.. هكذا تفعل بالكثيرين ..توقفُ أحلامهم ..تمسك بدفّة مراكبهم ..بشراعٍ أو بلا شراع تخوضُ بهم الغمار ..ثم تقف بهم حيث المحطة الأخيرة.
- أتعلمْـنَ.. ! هذا ثاني مشهدٍ يبكيني بعد مواجهتي بحقيقة تفشّي الداء فــيّ.. ربما أفتقدكنّ يا بناتي .. كم اشتقتُ للمرح الذي كنتُ أراه يسكن الوجوه .. للمشاكسة اللطيفة ..للمجتهدات منكنّ والمقصرات ..لا تقلقن عليّ .. كما ترينني فأنا لا زلتُ هنا ..أقفُ بينكنّ ..أعانق الدفاتر، أناظر السبّورة كأنها مرآة الأميرة ، أستعرضُ محطات عمري بين سطورها ..أداعبُ ألواح الطباشير بين أصابعي ..أرى أقلامكنّ سنابل بين سهوبِ عمري ..
لقد طلبتُ من الإدارة أَن تأذنَ لي بامتحانٍ قصير ولن يصححه أحدٌ سواي . ..هيا !! تشجّعن وأجِبـنَ على هذه الأسئلة ..
بنفسها جالتْ بين مقاعدنا ، بالكاد تجرّ جسمها المنهَك ، توزّع أوراقَ الامتحان ..كنا تقتنص لمسةً من يدها..لمحةً من عينيها ونحن نستلمُ الأوراق ..
لن يُنسى ذلك الامتحانُ على قِصَـره ..اختلطتْ مشاعرنا بين الحزن والأمل .. لكننا ولأول مرة تعلقنا بأوراقِ الامتحان .. تمسّكنا بها كأنها ضالّةٌ نفيسةٌ ردُّتْ إلينا .. امتزجتْ دموعنا بالحبر .. ارتعشتْ أيدينا .. حرصنا على كتابة أسمائنا بخطٍ ظاهر .. ذيّلنا أوراقنا بدعاءٍ ورجاءٍ بلقاءٍ آخر ..قبل تسليم الورقة مررنا عليها بأصابعنا كأمّ تتحسّسُ وجنتيْ طفلها المحموم ..!
وأنا أعشقُ التأمّل ..!.يشْرِعُ لي بابَ مركبته ، ..يقلّـني إلى عالمٍ أرى فيه كلّ شيءٍ هادئاً .. حتى الضجيج ..ينام في حضنِ السكون ..كل المفاهيم تبوح لبعضها .. من هناك آخُـذُ .. أغترفُ ملء كفيّ أملاً ..ثم أعود ..
والآن يتمثّـل أمامي مشهد الحياة وهو يواجهُ الموت ..حينما رأيت معلمتي رأيتُ الحياة تنتصبُ حيويةً و جمالاً ..لم أرَ في دموعها الضعف ..بل ماءً حارّا يذيب ملح اليأس ..
الحياة ترى الموتَ قادماً من بعيد ..فلا تهتزّ من أمامه .. تقولُ له لـمّـا يحـنْ دورك بعد ..! ،،ألا تراني ..؟ لا زلت بنضارتي ..جُـنديّكَ هذا أخذَ جُـزءًا مني ..سطا على شَعْـري !.. سرقَ حاجبيّ ! لكنه لم يفتّ من عضدي ..أنا أقف الآن هنا ..فأين أنت ؟! الموت حينها لم يحرْ جواباً ..توارى ، ثم انزوى خلفَ شجرةٍ بعيدة ..لكن ظلّـهُ لم يزلْ ظاهراً ..يختلسُ النظر متربصاً من حينٍ لآخر ..
تحلّقنا حولها قَبْلَ أن تغادر، كانَ شقّها الأيمن جامداً.. جزءٌ من صدرها اختفى ، ربما لم تفلحْ جلسات الكيماوي في تذويب الورم .. لكن دموعها أذابتْ كلّ قاسٍ في قلوبنا ..ودّعتنا بابتسامةٍ مخضّبةٍ بالعبرات ْ.. أسلمناها شغافنا.. لوّحنا بأيدينا ثم صفّقنا ..لأول مرةٍ نصفقُ لمعلمة ! ثمّ ..و هكذا ..مضتْ ...
مرّت أسابيع على ذلك اللقاء ، ولا زلنا ننتظرُ نتائج الامتحان ممهورةً بإمضائها ..
وأنا لا زلت أعشق التأمل ..!.. أُلـْقـي على كتفه رأسيَ المثقلة ، ثمّ يشيرُ لي نحو أفقٍ غامرٍ بالحياة ..
.. لكنني سمعتُ هذا اليوم خشخشةً أيقظتني من شرودي ..قادتني لأنظر أسفلَ الشباك ،أطللتُ برأسي حيث العشّ.. ريشُ الحمامة البيضاء يتطاير .. مددتُ عنقي ..فإذا بفراخٍ تمتـدُّ بأعناقها ..!