أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 20

الموضوع: ورقـة الامتحـان

  1. #1
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي ورقـة الامتحـان

    لا زلتُ أعشقُ التأمل !
    أبسط الأشياء تأخذني إلى عالمها ..حفيفُ أوراق الشجيرات المهملة على قارعة الطريق ..خفقةٌ من جناحِ طائر ..غيمةٌ تحوم في السماء ..ربما لا يكفيني عالمٌ واحد .. ولا تسعني أسوارُ مدرستنا القديمة فأسبحُ في عالمي برهـةً ثم أعود ..

    كنت ألمحها تلوحُ في سمائنا ، تضربُ الريح بجناحيها فيخلي لها السبيلَ إلى جدارِ مدرستنا المهترئ ..تهوي ثم تستقرّ أسفلَ الشباك خارج قاعة الصفّ ..هناك يقبع تجويفٌ صنعته رداءةُ اليدِ العاملة وعمّقته يـدُ الدهر سنةً بعد أخرى .

    تلك الحمامةُ البيضاء كنت أتابعها يوماً بعد يوم ..اكتشفتُ أنها صنعتْ عشّاً أسكنتْ بيضاتها فيه .. كتمتُ أمرها خشيةً عليها وربما استئثاراً بسرّها ..

    وأنا لا زلتُ أعشق التأمّل ! .. هو جناحايَ أضربُ بهما فأسرحُ بعيداً عن قاعة الدرس .. كنتُ أسترقُ النظر وأمدّ عنقي من الشباك كلما لاحت الحمامةُ ولاحت لي الفرصة علّني أحظى برؤيةِ فراخها يوماً ما ..
    لكنّ ذلك اليوم أذهلني عنْ تلك الحمامةِ وعشّها..
    كنتُ كغيري من الطالبات .. أترقبُ زيارتها لقاعةِ الصفّ بعد شهرين من الغياب .. كم شعرنا بالندمِ يصرخُ في وجوهنا بعدما تناقلنا بعضَ الشائعات .. : استقالتْ من العمل بعدما سنحت فرصةٌ براتبٍ أجزل .. آثَرت التقاعد المبكر ..الخ

    الحصة الأخيرة أزِفَـتْ ..ولم يبـقَ سوى دقائق معدودة ..كمْ هي صعبةٌ لحظات الانتظار .. لكنها لا رَيب ستلاقينا بوجهها المشرئبّ بالحمرة .. بعينيها الثاقبتين من خلفِ نظارتها ذات الإطار المذهّـب .. كم اشتقنا إليها ، هكذا ! مرةً واحدة تعلقنا بها ..نسينا تقريعها ، قرصاتِ أصابعها.. شدّتها وحرصها الذي كان يحاصرنا ويثقلنا بواجباتٍ ووظائف مدرسية ..
    .. ترى هل ما زالت تحتفظُ بنبرة صوتها الحادّ وحزمها الذي عهدناه ..؟
    ها هي تدخل بتؤدةٍ وسكينة ..ألقتْ علينا السلام ووقفتْ أمامنا تطالعنا .. نظراتها انهمرتْ كسربٍ انحدرَ من علياءٍ ثم حدّقت طيوره فينا .. حطّتْ على رؤوسنا .. ها هي الآن تقرأ في عيوننا الحزنَ والترقـب ، صمتها كان يحكي الكثير ..يستفزّ ما خمدَ في قلوبنا ..يهيّج مآقينا ،أطرقتْ ..،كانتْ أول إطراقةٍ منها.. وأول دمعةٍ تسقي حمرة َخدّيها كفيلةً بأن ننشجَ بالبكاء ..كنّا تعاهدنا برباطة الجأش أمامها ..لكننا سرعان ما تهاوينا أمامَ سطوة عينيها النازفتين.. يا لمقادير الزمن !.. هكذا تفعل بالكثيرين ..توقفُ أحلامهم ..تمسك بدفّة مراكبهم ..بشراعٍ أو بلا شراع تخوضُ بهم الغمار ..ثم تقف بهم حيث المحطة الأخيرة.

    - أتعلمْـنَ.. ! هذا ثاني مشهدٍ يبكيني بعد مواجهتي بحقيقة تفشّي الداء فــيّ.. ربما أفتقدكنّ يا بناتي .. كم اشتقتُ للمرح الذي كنتُ أراه يسكن الوجوه .. للمشاكسة اللطيفة ..للمجتهدات منكنّ والمقصرات ..لا تقلقن عليّ .. كما ترينني فأنا لا زلتُ هنا ..أقفُ بينكنّ ..أعانق الدفاتر، أناظر السبّورة كأنها مرآة الأميرة ، أستعرضُ محطات عمري بين سطورها ..أداعبُ ألواح الطباشير بين أصابعي ..أرى أقلامكنّ سنابل بين سهوبِ عمري ..
    لقد طلبتُ من الإدارة أَن تأذنَ لي بامتحانٍ قصير ولن يصححه أحدٌ سواي . ..هيا !! تشجّعن وأجِبـنَ على هذه الأسئلة ..
    بنفسها جالتْ بين مقاعدنا ، بالكاد تجرّ جسمها المنهَك ، توزّع أوراقَ الامتحان ..كنا تقتنص لمسةً من يدها..لمحةً من عينيها ونحن نستلمُ الأوراق ..

    لن يُنسى ذلك الامتحانُ على قِصَـره ..اختلطتْ مشاعرنا بين الحزن والأمل .. لكننا ولأول مرة تعلقنا بأوراقِ الامتحان .. تمسّكنا بها كأنها ضالّةٌ نفيسةٌ ردُّتْ إلينا .. امتزجتْ دموعنا بالحبر .. ارتعشتْ أيدينا .. حرصنا على كتابة أسمائنا بخطٍ ظاهر .. ذيّلنا أوراقنا بدعاءٍ ورجاءٍ بلقاءٍ آخر ..قبل تسليم الورقة مررنا عليها بأصابعنا كأمّ تتحسّسُ وجنتيْ طفلها المحموم ..!

    وأنا أعشقُ التأمّل ..!.يشْرِعُ لي بابَ مركبته ، ..يقلّـني إلى عالمٍ أرى فيه كلّ شيءٍ هادئاً .. حتى الضجيج ..ينام في حضنِ السكون ..كل المفاهيم تبوح لبعضها .. من هناك آخُـذُ .. أغترفُ ملء كفيّ أملاً ..ثم أعود ..

    والآن يتمثّـل أمامي مشهد الحياة وهو يواجهُ الموت ..حينما رأيت معلمتي رأيتُ الحياة تنتصبُ حيويةً و جمالاً ..لم أرَ في دموعها الضعف ..بل ماءً حارّا يذيب ملح اليأس ..
    الحياة ترى الموتَ قادماً من بعيد ..فلا تهتزّ من أمامه .. تقولُ له لـمّـا يحـنْ دورك بعد ..! ،،ألا تراني ..؟ لا زلت بنضارتي ..جُـنديّكَ هذا أخذَ جُـزءًا مني ..سطا على شَعْـري !.. سرقَ حاجبيّ ! لكنه لم يفتّ من عضدي ..أنا أقف الآن هنا ..فأين أنت ؟! الموت حينها لم يحرْ جواباً ..توارى ، ثم انزوى خلفَ شجرةٍ بعيدة ..لكن ظلّـهُ لم يزلْ ظاهراً ..يختلسُ النظر متربصاً من حينٍ لآخر ..

    تحلّقنا حولها قَبْلَ أن تغادر، كانَ شقّها الأيمن جامداً.. جزءٌ من صدرها اختفى ، ربما لم تفلحْ جلسات الكيماوي في تذويب الورم .. لكن دموعها أذابتْ كلّ قاسٍ في قلوبنا ..ودّعتنا بابتسامةٍ مخضّبةٍ بالعبرات ْ.. أسلمناها شغافنا.. لوّحنا بأيدينا ثم صفّقنا ..لأول مرةٍ نصفقُ لمعلمة ! ثمّ ..و هكذا ..مضتْ ...
    مرّت أسابيع على ذلك اللقاء ، ولا زلنا ننتظرُ نتائج الامتحان ممهورةً بإمضائها ..
    وأنا لا زلت أعشق التأمل ..!.. أُلـْقـي على كتفه رأسيَ المثقلة ، ثمّ يشيرُ لي نحو أفقٍ غامرٍ بالحياة ..
    .. لكنني سمعتُ هذا اليوم خشخشةً أيقظتني من شرودي ..قادتني لأنظر أسفلَ الشباك ،أطللتُ برأسي حيث العشّ.. ريشُ الحمامة البيضاء يتطاير .. مددتُ عنقي ..فإذا بفراخٍ تمتـدُّ بأعناقها ..!
    وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,181
    المواضيع : 318
    الردود : 21181
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    أعطتهن أوراق الإمتحان .. ومازلن ينتظرن النتائج ممهورة بإمضائها
    يبدو أن الزمن لم يمهلها حتى تقوم بذلك.
    هى أيضا كانت في إمتحان .. أوليس المرض هو إختبار من الله سبحانه
    لقدرة المرء على الرضا بما كتبه الله له والإستسلام لإرادته ومجابهة
    شبح الموت وقهر الخوف .
    ولكن سبحان الله الذي خلق الموت وخلق الحياة فهاهي أفراخ الحمام
    تقول إن الحياة لا تتوقف.
    رائعة قصتك أ. عبد السلام بفكرتها وبعرضها وبجمال السرد فيها..
    بمشاعر الحب الصادق بين المدرسة وبناتها في لغة قوية وتعابير
    ملفتة وعرض واضح يتيح الفهم والتأثر والإنفعال والتفاعل.
    ليس غريبا عليك الإمتاع فإنك تمتلك قلما رائعا وفكرا خصبا
    بارك الله فيك وفي قلمك وفي فكرك .. ودمت سامقا. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    كم تغرقني التفاصيل الصغيرة في تجاويف السطور لأجدني على حافة كل سطر أتأمل صور رسمت بدقة حد الحقيقة
    فكرة وتصوير وأسلوب وإحساس اجتمعوا في قصتك الجميلة
    لك بصمة مختلفة ومعان بأثر يدوم في العقل والروح
    اتحفتنا بجدارة
    بوركت

  4. #4
    الصورة الرمزية علاء سعد حسن أديب
    هيئة تحرير المجلة

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 468
    المواضيع : 50
    الردود : 468
    المعدل اليومي : 0.09

    افتراضي

    قسوت على بعض قرائك أستاذي .. وانا منهم

    ربما كوني مررت بتلك التجربة اكثر من مرة وفي اعظم من أحببت في هذه الحياة

    فجاءت قصتك الرائعة المؤثرة لتسكب دموعي رغم اني أقرؤها وانا في مكتب عملي

    دمت رائعا بأدبك وفنك

    مع الرجاء ان حنانيك على ذوي القلوب الضعيفة والمكلومة
    هل تكفيني كلمة أحبك وأنا أقتات على حبك!روحي تحيا بحبك،قلبي يدق به، حياتي لحبك

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    الولادة حياة مطرزة بالأمل ومكتوبة بحبر القدر ..
    دمت سالما ايها المبدع ...

  6. #6
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    قصّة رائعة!
    الحياة امتحان ومستمرّة (مددتُ عنقي ..فإذا بفراخٍ تمتـدُّ بأعناقها ..!)
    أسلوب جميل في السّرد، وعرض الفكرة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  7. #7
    الصورة الرمزية سمر أحمد محمد أديبة
    تاريخ التسجيل : Feb 2013
    المشاركات : 1,083
    المواضيع : 96
    الردود : 1083
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    الحياة لا تنتهي بموت احدا

    هي مستمرة بحلوها ومرها وذكرها

    سلمت يمنيك على هذا التأمل

    الذي جعلتنا نشارك به
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    الصورة الرمزية وفاء العمدة قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : مصر - أسيوط
    المشاركات : 80
    المواضيع : 6
    الردود : 80
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    قصة مكثفة راااائعة اختصرت معان كثيرة
    مابين الحياة وبين الموت "ورقة امتحان "
    نجتهد دوما للنجاح فى حلها ..هل تمهلنا الدنيا ؟
    والتأمل دعوة لمعرفة حقائق الاشياء حتى يتسنى لنا
    الاجابة على بعض اسئلة الامتحان فى الحياة المستمر بنا او بغيرنا
    سرد سلس يجبرك على المضى فى القراءة من اول حرف
    حتى اخره
    بوركت كاتبنا المبدع أ.عبد السلام دغمش
    احترامى ...مودتى
    دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانى

  9. #9
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    أعطتهن أوراق الإمتحان .. ومازلن ينتظرن النتائج ممهورة بإمضائها
    يبدو أن الزمن لم يمهلها حتى تقوم بذلك.
    هى أيضا كانت في إمتحان .. أوليس المرض هو إختبار من الله سبحانه
    لقدرة المرء على الرضا بما كتبه الله له والإستسلام لإرادته ومجابهة
    شبح الموت وقهر الخوف .
    ولكن سبحان الله الذي خلق الموت وخلق الحياة فهاهي أفراخ الحمام
    تقول إن الحياة لا تتوقف.
    رائعة قصتك أ. عبد السلام بفكرتها وبعرضها وبجمال السرد فيها..
    بمشاعر الحب الصادق بين المدرسة وبناتها في لغة قوية وتعابير
    ملفتة وعرض واضح يتيح الفهم والتأثر والإنفعال والتفاعل.
    ليس غريبا عليك الإمتاع فإنك تمتلك قلما رائعا وفكرا خصبا
    بارك الله فيك وفي قلمك وفي فكرك .. ودمت سامقا. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    الأخت الاديبة نادية الجابي

    تقديري كبير للمرور الطيب والقراءة المتأنية للنص المتواضع ..
    نعم خلق الله الموت والحياة .. ومن تسلح بالرضا والأمل تعيش الحياة فيه أطول مما يعيشه الموت !

    تقديري وامتناني ..

  10. #10
    مشرف قسم القصة
    مشرف قسم الشعر
    شاعر

    تاريخ التسجيل : May 2011
    المشاركات : 7,009
    المواضيع : 130
    الردود : 7009
    المعدل اليومي : 1.48

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خلود محمد جمعة مشاهدة المشاركة
    كم تغرقني التفاصيل الصغيرة في تجاويف السطور لأجدني على حافة كل سطر أتأمل صور رسمت بدقة حد الحقيقة
    فكرة وتصوير وأسلوب وإحساس اجتمعوا في قصتك الجميلة
    لك بصمة مختلفة ومعان بأثر يدوم في العقل والروح
    اتحفتنا بجدارة
    بوركت
    الأخت الفاضلة الاديبة خلود

    ممتن للمشاركة والتعليق المشجع ..
    بورك فيكم .
    تحياتي .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة