عروس النيل :
ــــــــــــــــــــــــ
ليلٌ ، خلت من سمائه الأقمار لمّا حال دون اللقاءَ فِراق .
وليلة احلولكت ، حتى ابيضّ لمّا نافسها السوادُ ! ولات حين إشراق ! .
كأنّ الرّهان في السواد لما برعت في سوادها الحِداق .
وإن كانت كذلك ،،، فهي إحدى ليالٍ عتت عن أمر شِرعتها لما كانت ضربا من نُسُكِ العُشّاق .
وإن بانت نجيّته ،،، فهي إحدى سَوْراته لمّا تأجّج جوفه المُشتاق .
وأجنّتهُ في الديجور احترافا ، كما أجنّ العسل في بطنه الذوّاق .
ومَن غير الذي خلق وبرأ يعلم السر والنجوى ، إذا سارّ الحبيبين عِناق ؟ .ــــــــــــــــــــــــ
ثم جاءت عُنيس :
فجلست ثم قالت : جئتكَ من النيلِ بنبأ عظيم ! .
أدرتُ الحماليق وقلت لها : هاه ؟ ! .
تبسمت وقالت : وجدتها تغتسل لمّا خفتت أضواء المدينة ،،، ولما تجلّى القمر .
تستجم هناك حيث اليمّ يحملها بأحضانه ليغيظ الموج !!! يكشفها الجَزْرُ حيناً ، وآناً يسترها المدُّ ،،، وكأنك إذا نظرتَ ، نظرت إلى قمرين ، بل إلى ثلاثة .
قلت : ومن تلك ؟
قالت : عروس النيل !!! .
قلت أحذّرها : عنيس ،،، أخشى كذبكِ ! .
قالت : آية صدقي أنك تجد طارقا هناك ! .
قلت : ومن طارق ؟
قالت : طارق سالم ،،، رجل ، لمّا وهنت شكيمة الرجال ،،، صادق العهد ، لمّا تأمّر على المواثيق الكذب .
ألا تكفيكَ تلك الغنيمة يا حسين إن وجدته ؟
قلت : بلى ،،، أتأخذيني إليهم الآن يا عنيس ؟
قالت : ما جئتك الساعة إلا لآخذك .
قلت : وكيف ؟
قالت : كما حملتك في سالف مضى إلى جنية الأحقاف ،،، أتذكر ؟
تبسمت وقلت : نعم أذكر .
ثم حملتني كما حملت مائها السُحُبُ ،،، وطارت بي كما طارت بغيمتها الريحُ ،،، وانطلقت بي مسرعة كما أسرع بضوئه البرق .
ثم هبطت بي على شاطئ النيل ،،، حيث لا قرية ولا بشر ،،، ولا ضوء إلا ضوء القمر ،،، ولا همس إلا حفيف الشجر ،،، ولا مُتّكأ إلا الثرى والحجر .
قلت بتعجب : ما هذا ،،، ؟ .
قالت عنيس : ويحك ،،، أتريد من عروس النيل أن تستجم على أعين الأشهاد ؟؟؟ والله إن هذا لمنتجعها وحريتها ، حيث لا تَظْلِم ولا تُظْلَم ! .
قلت : لا بأس ،،، ولكن أين هي ؟
قالت : ستتجلى لك كما تجلّت لعاشقها الحسناء ،،، فاصبر يا فتى .
قلت : وأين طارق ؟
رفعت حاجبها ومدت عنقها تومئ إليه وقالت : ألا تراه ! إنه هناك حيث لا يرانا يصيد السمك ،،، فلنذهب إليه .
فلما وافيناه نظر إليّ وقال : من الرجل ؟
تبسمت وقلت : صاحب الليل ! عاشق القمر وواصفه ، طارد الهمّ وداحره ! .
تبسّم وقال : عرفتك ،،، أنت الحسين .
ثم قام وسلم ، وأجلسني بقربه ،،، ونظر إلى الفتاة وقال : من الحسناء ؟
قلت : هذه حسناء الجن ساحرة الجمال عُنَيْس .
نظر إليها وقال : لم أرَ على ظهر الأرض أجمل منها .
قلت : ما زالت صغيرة ، حيث بلغت توًا من العمر أربعمائة وخمسين عاما فقط ! .
قال بتعجب : كل هذا العمر ،،، وصغيرة ! ؟ وماذا تماثل في أعمارنا ؟
قلت : كفتاة في السابعة عشرة .
ولكن ،،، أنت ماذا تفعل هنا ؟
قال : أصيد السمك ،،، ألا تصيد أنت السمك في الخليج ؟
قلت : أذهب أحيانا لأصيد ، وبعد ساعات طوال أكتشف أنني ما ذهبت إلا لأُعَشّي السمك .
ضحك وقال : لست محترفا يا حسين .
قلت : والله ما هممتُ بشيئين واحترفتهما ، إلا وعادا نكسا رأسا على عقب .
قال : وما هما ؟
قلت : صيد السمك والطبخ ! .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
ثم بعد حديث حميم قال : ما الذي جاء بك إلى هنا ؟
قلت : عروس النيل ! .
تعجب وقال : عروس النيل !!! هنا في مصر ؟
قلت : نعم ،،، وعلى ذمة الراوي ! .
قال : أيّ راوٍ هذا ؟
قلت : الفاتنة ساحرة المُقل عنيس ! .
نظر إليها ثم إليّ وقال بلهجته المحلية : ( هُوّ انته يا بْنِي لِيْك فكُلّ خرابة عَفْريت ؟؟؟ ) .
ضحكتُ وقلت : نعم ،،، لي في كلّ خرابٍ يَبَابٍ عِفْريتا .
قال : ومن عِفْريتُك في هذا الخلاء ؟
قلت : عِفريتة ،،، بل جِنيّة ساحرة ،،، بل أنثى بارعة ،،، أورثتني الهُيام والعشق ! .
قال : ويح مصر !!! ومن تكون هذه البارعة ؟ ،،، ورب البيت ، لربّ الدار أولى بلحمته ! .
قلت : هل أنا بحضرة طارق أم بحضرة ملك الحِيْرة ؟
قال : ماذا تقصد ؟
قلت : اعترض ملك الحيرة على الكِسرى فقال ،،، ألا يكفيه ما في فارس وسواد العراق حتى يطلب ما عندنا ! .
ضحك وقال : أمازحك وأداعبك ،،، فمن تكون عروس النيل ؟
قلت : وأيّمُ الله لو كنت أعرف لها شكلا لأعلمتك ! .
قال : إن كانت كما تقول ( لم ترها ) ،،، فكيف نالتك بسحرها إذن ؟ .
قلت : بجملة محلية بسيطة فقط ! .
قال : وما تلك الجملة التي أتت بك بِقِطعٍ من الليل ؟
قلت : قالت ( أنا مخصماك ومُش بكلمك ) فقط .
تعجب وقال : ماذا !!!؟؟؟ .
قلت : تقديم كلمة ( مش ) قبل الفعل كأداة نفي في المنطق المصري مثل ( مش بعرف ) ( مش بكلمك ) يُعد من السحر المؤثر على المتلقي .
قال : أنا أقولها ،،، فما رأتني سحرت أحدا .
قلت : إذا قلتها أنت ، فلا تمتلك حجة لفت الأنظار ! ولست مؤهلا بتعابير الحداق لما تتهارب يمينا ويسارا بعد النطق ، أو إذا ران عليها إطراقٌ حيث ينسدل الجفن ويتمادّ الوطف ، فترى المقلة تتحرك حركة تفتك بجبّار يمشي على الأرض ! .
قال : ويحك ،،، ومن يُحسن تلك اللغة ! ؟ .
قلت : هُنّ ! .
تراهن إن مشين ، تحدث الجسد ونطق ،،، وإن نطقن بعشق تبسّم الوجه وصدق ،،، وإن أردن برعن في الإرادة ولو كُنّ في نَزَق ! .
قال : انتظر ،،، كيف يتحدث الجسد ؟
قلت : إن جاءتك مقبلة تمشي كالنسيم ، وقد اتّكأ شعرها على المتنين ، تمد ساقا وتلحقها بالأخرى ، وتتبختر ما بين مَيْس ومَيْد .
فإن الجسد ساعتئذ يقول : هاتِ الموافقة قبل أن أصل ! .
قال : دونما عرض على العقل أقول لك ،،، صدقت يا حسين .
قلت : وأزيدك أيضا ،،، إن كانت من هناك ،،، فتشق الكبد كما يشق الفأس الأرض ! .
نظر وقال : من هناك !!! أين ؟
قلت : هاتِ أذنك لأسِرّ إليكَ القول كي لا يسمعنا أحد .
فأدنى أذنه وأعلمته المكان .
انتفض وقال : ماذا ؟؟؟؟ .
قلت : والله إنها لأصدق عاطفة ، وأطيب ريحا ، وأنضر جمالا وإن لم تتزيّن .
وإنها لأعظم عشقا وأوفى حبا لما أورثتها الأرض أصالة المنبت .
وإنها لأتم أنوثة وألْيَن نعومة لما تهديها الطبيعة من الصفاء والنقاء .
سهم هنيهة وقال : قول يقبله العقل .
قلت : نعم .
قال : أعروس النيل من هناك ؟
قلت : أما هذه فأُسِرّها منك ، ولا تؤاخذني إن كظمتُ سرّا .
قال : من متممات الرجولة حفظ الأسرار .
ولكن .
أين العروس ،،، مكثنا طويلا وكاد الليل ينتصف ؟
قالت عنيس : لعلها تداعب أمواجها ولم تنتهِ بعد ! .
قال طارق : أما انا فقد أطلتُ المُكث ،،، وأزِفَ الرحيل .
أتأذن لي في الانصراف ؟
قلت : لك ما تشاء ، غير أني وددت لو تمكث .
قال : لنا كرّة إن شاء الله .
ثم حمل سمته وسرى بستر الليل بعد أمن الله وحفظه .
وبعد مكث طويل ،،، آذن السحر ، فقلت لعنيس : علمتُ أنكِ تكذبين .
قالت : لا والله ما علمتَ يا حسين ها ذي العروس تظهر ،،، انظر ! .
فجعلتُ أدّارءُ خلف صخرة من حيث أراها ولا تراني ،،، لعل عيني تختلس بعض نظرات لا تكون حال الشهادة .
ورغم أني رمقتها ،،، إلا أني خفت عليها خائنة الأعين ،،، فكيف أبادرها بخائنة الأعين وهي في غفلة ! ؟ لا كنتُ إن لم أتراجع ،،، فأدرت ظهري .
وما هي إلا عدة زفرات حتى أحسست بها خلفي تمشي .
فنظرت إليها وإذا بها كعروس ندّت فضاعت ، ثم جاءت على قدر تلتمس من يهديها السبيل .
فرعاء حسناء ، استعمرها الحسن حتى لم يبق منها ما يُذم .
وجه الربيع رغم كونه من أخلاط ودم .
ربّاه ،،، كيف نضبت الأرحام فلم تعلق بمثلها ؟! .
وكيف أقفرت البطون فلم تدفع كشكلها ؟! .
وكيف غاضت وجفّت الأصلاب فلم تصهر كلونها ؟! .
ثم .
بادرتني وقالت : من أنت ؟
قلت : رجلٌ أجدب فجاء ينتجع ؟
قالت : وما نجعتك ؟
قلت : عروس النيل ! .
قالت : وهل أقفرت من عروسها بلدك ؟
قلت : لا ! .
قالت : وإذن ؟
قلت : أخبرتني عنيسٌ بأمرك ، فجئتكِ أطوِ البعد طي الثوب ! .
وقد ركبت الريح إليكِ كالطير لما حمله الجناح ،،، ولو أن غيري قالها لي لما صدقته ! .
فآنَسَتْ من لدني أمنا فجلستْ .
ثم قالت : ما اسمك ؟
قلت : حاءٌ من حبٍّ مُهدى إليكِ ،،، وسينٌ من سيف بيدكِ إن شئتِ ،،، وياءٌ من يحموم مسال في جوف شانئكِ ،،، ونونٌ من نوال إن أحببتِ أن تنالِ .
تجمعينها بقولكِ ( حُسَيْن ) .
فما أن سَمِعَت حتى صرنا في عالم غير العالم ، ودنيا غير الدنيا .
فأرخت نفسها كأنها الملكة في خدرها ! ،،، وراحت تدير ظهرها إلي على مذهب امرأة تستدرج عاشقا ! .
ثم ناولتني مشطا ! .
فقلت : ما هذا ؟
قالت : أمشط شعري ،،، وكن بي رفيقا ، فقد ذقت الظلم ألوانا ، وأتوق ولو للحظة من رفق .
قلت : بنفسي أنت يا هذه العروس ،،، فلا تخافي .
ثم أنشأتُ أمشط شعرها الأسود الجميل الطويل ،،، حتى راقها اللطف وراحت تغني كعصفورة بين يدي تصدح .
فلما فرغت ،،، نظرت إليّ وقالت : صدعني رأسي .
فمددت يديّ إلى جبينها ورحت أجسّه وأدلّكه حتى ران عليها خدر ،،، فألقت ظهرها بعد أن دمّثت لها مضجعا ،،، ورحتُ أطرد صداعها حتى ذهبت في سبات .
فلما آذن الفجر قالت عنيس : يجب أن نرحل ،،، أيقظها .
ففعلت .
فقالت : لم أيقظتني ؟
قلت : حان الرحيل أيتها العروس
قالت : إلى أين ؟
قلت : إلى بلدي .
قالت : أستعود ؟
قلت : قد أعود فيما لو سنحت لي سانحة
قالت : أتريد شيئا ؟
قلت : ضميني إليكِ
تبسمت ،،، وقبل أن تفعل انتشلتني عنيس وطارت بي .
والعروس تنظر إلينا بابتسامة مشوبة بأمل العودة .
فقلت لعنيس : ماذا فعلت يا ابنة الجن ؟! .
قالت : لو ضمّتك لما برحنا المكان ،،، فانتشالك هكذا أجدى .
قلت : لكِ من لؤم أجدادكِ الإرث الكبير ! .
ـــــــــــــــــــــ انتهى ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
حسين الطلاع
8/11/2011 م
المملكة العربية السعودية – الجبيل .
ـــــــــــــــــــــــــ ـ
: عُنَيْس : شخصية افتراضية من الجن ليست حقيقة وإنما من بنات الأفكار ، وذلك جريا على أساطير العرب الجميلة .
: طارق صديق حبيب من مصر العربية .