نظراته تعدو بين الجداول والسطور..
لايستوقفها سوى جمود الارقام وغموض الإحصائيات..
بينما رقدت على صفحة مكتبه البارد أكوامٌ من الملفات ..
كلما إنتهى من واحد أخرج الباقون ألسنتهم فى شماتةٍ يتحدون صبره وطول باله !
تمتد يده فى لهفةٍ إلى كوب الماء المنتصب فى إغراء إلى يمينه ..
لعل رشفات قليله منه تعينه على جفاف تلك الارقام والحسابات المعقدة..
منشغل هو إلى أخمص قدميه بين الاوراق..
بينما جو المكتب صاخبا" مابين تململ بعض المواطنين من تأخير معاملاتهم.. واحاديث النميمة واخر صيحات الموضة النسائية!..
يقتطع لحظات يلتطق فيها أنفاسه فيسند ظهره المتعب على خلفية المقعد الخشبى الخشن.. ثم يهيم ناظرا" فى سقف الغرفة كأنه يبحث عن حبلِ يتدلى ليلتف على عنق الوقت المتبقى فيشنقه..!
عيناه تتفحص المكتب المواجهه له.. وكأنه يبحث عن شئ وسط سكونه وصمت أدراجه..
غابت صاحبته منذ عشر أيام بعدما قررت الرحيل إلى أسرتها فى الخليج..قرار تأخر عام ونصف لكنها فى النهاية كانت عاقدة العزم وبكل إصرار أن تتخذ هذا القرار.. وكل ماسمعه عنها أنه بعد أيام قليله سوف يتم زفافها على إبن خالها الذى يعمل مع أبيها هناك..زملاءها فى المكتب أصابتهم الدهشة لحماسها فى إتخاذ قرار الرحيل بذلك العزم.. لأنها هى ذاتها كانت رافضة من قبل وبنفس العزم وربما أكثر..!
ذات العينين السوداوين.. كانت محل إهتمام ومودة كل زملاءها.. هادئة.. بشوشة.. كلماتها كأنها تنهدات الورد عند تفتحه وقت الصباح!..
لكن إنشغاله بالورق ومع الورق.. وإنشغاله بذلك الحوار الدائم بينه وبين نفسه عن ميزانية الشهر.. وكم سيرسل لأسرته الفقيرة فى الصعيد.. وكم سينفق على إحتياجاته اليوميه هذا الشهر. . ولما لاينشغل وقد أمضى29عاما" من عمره لايعرف سوى مقاعد الدراسة وأظافر العمل فى الحقول أو فى عالم المعمار القاسى!..
الان هو جالس على مقعد مُريح ..فلما لايشكر الله على تلك النعمة التى كان يشتهيها فور تخرجه من الجامعة..!
دقائق على إنتهاء وقت العمل الصباحى..
بعدها يذهب إلى غرفته المتواضعه على أحد السطوح القريبة...
ساعةٌ واحده يرتاح فيها ليعاود العمل االمسائى فى إحدى المحلات الخاصة..!
قدماه تمسح وجه الشارع المجعد.. قدماه تقوده فى الية إلى حيث تعود الذهاب يوميا".. بينما هو شارد فى ذات العينين السوداوين.. يستحضر فيها ذلك المشهد الأخير بينهم يوم إقتربت من مكتبه لتودعه.. سحابة من دموع تغرق بياض عينيها التى إنطفاء بريق السعادة فيها.. عيناها كانت لا تقوى أن تواجه عينيه.. بينما إرتعاشات شفتيها كانت تبوح بكلمات متعثرة فى حلقها لاتبرح فمها.. كان يومها لايدرى ماذا يقول فى تلك المناسبات.. رغم انه قد تعود على الوداع وعلى الإرتحال منذ كان صغيرا".. لكن جمال وجه إمراءة باكية وحزينة كفيل أن يلف حول لسانه حبل الصمت وربما الخجل..
تتعثر قدمه فى حفرة خادعة.. فيستفيق من شروده بعدما رأى باب البيت أمام عينيه..
يدلف من باب البيت.. لكن صوت الحاج عبده البقال يستوقفه .. جواب يا استاذ علاء... يلتفت خلفه ليلتقط الخطاب من بين أصابعه.. خطاب وردى اللون لم يعهد نعومة ملمسه.. فكل الخطابات دائما تاتى له من القرية حتى انه اصبح يعرف مافيها قبل ان يهم بقرائتها..!
يصعد الدرج فى لهفة..ينزلق المفتاح فى مكانه المعهود.. بينما يستقبله الباب العتيق بأنين مفاصله المزعج!..
يستلقى على سريره ويفض الخطاب.. رائحته تدير رأسه على عنقه.. الأن عرف صاحبته قبل ان يقراءه..!
إلى مَن نَسى قلبَه :
:
:
:
:
:
:
:
.. .. .. .. .. ..
يضم الخطاب إلى صدره مُبتلا" بدموعه..!
لايدرى أيبكى على صاحبة الخطاب التى إكتشف متأخرا" انها خير تعويض له عن شقاء السنين..؟!
أم يبكى على اوراق يقطعها كل يوم من تلك اللوحة المعلقة على الجدار.. تقويم عمره..!
يدس الخطاب برقة وحنان تحت وسادته..
ثم يهرع إلى مطبخه الصغير حتى يجهز ما يسد رمقه قبل أن يعاود رحلة المساء..!