.. مساء اعترضها ، تهرب منه ، تسرع في خطواتها .. يترصد لها في رأس الدرب .. يناديها ، تتوقف .. يقترب منها ، تحدق فيه ، غضب شديد يخنق لسانها .. قلق طائش ينسف قوتها .. قال لها :
ــ أنت ..يا .. توقفي ، أريد أن أتكلم معك ..
تعود إلى منزلها دون أن تشتري شيئاً، صاحب الدكان امتنع عن تزويدها بما تحتاج إليه ، بحدسه عرف أنها في عطالة منذ مدة . قبع قلبها خلف فراغ قاتل ، بين الجدران تعجن خطواتها ، والأشياء على قلتها تشيعها .. جلست بجانب ولدها الصغير ، تنظر إلى جسمه النحيف ، وأنفاسها تتصاعد متهالكة على فراغ البيت . بحذر ترفع الغطاء عن وجهه ، في سرها تقرأ براءته .. اختطفتها لحظة تطل من ثقب الماضي ، فجاءها صوت يستفز حاضرها .. بنبرة التأسي والعتاب ، قالت :
ــ خسارتي أنا .. رجل الماضي ، منحته قلبي يوم أن كان جسمي ربيعاً ، فبنيت له موطنا فوق أشواقي .. لكن .. غادر وتركني أضحك خفية ضحكات ساخطة ، فنسيت نفسي أنني أنثى..
ثوان مرت ، اعتصر الصغير جسمه ، تجمع دم كثير في وجنتيه . صراخه يخترق النافذة المطلة على الشارع .. ضمته إلى صدرها فانهمرت دموع دافئة تبلل جلدة عنقه . نظرت إلى قارورة الحليب ، وجدتها فارغة ، بدأت تهدهده ، غـــفا .. وضعته على بطانية تعافها النفس من شدة البلل ، وحصير تفوح منه رائحة البرودة ..
اهتدت أن تملأ قارورة الحليب بالماء ، رجتها حتى اختلط ما تبقى من الحليب اليابس بالماء الدافئ ، رفعت القارورة بين عينيها ، تأملتها ، بدا السائل شاحباً .. الصغير يتململ ، فتح عينيه ، حرك شفتيه .. بسرعة ركزت القارورة في فمه الصغير ، تـذوق الرضيع السائل، أقبل عليه بنهم في البداية ، مص عدة مصات ، لم يعجبه طعمه ، فـــترك السائل ينبجس بين شفته ..
نظرت إلى السماء ، دفنت زفرات أنفاسها بين ثقوب الفراغ .. بكت وبكت .. دموع دافئة مسحت ما تبقى من كحل بائت ، هرعت إلى المرآة ،رأت وجهها ولم تر نفسها،غسلت وجهها ، أعادت كل الألوان المغرية لوجهها ، لعينيها ، لشفتيها .. نظرت إلى جسمها ضغطت على صدرها النافـــــر ..
حملت ولدها بين ذراعيها ، خرجت مسرعة . في رأس الدرب ، والمساء يكاد يعلن موته. وقفت تنتظر ذلك الرجل الذي كان يعترضها باستمرار ، ثوان ، دقائق مرت .. لم يأت ، همت أن تنصرف ..فجأة ، عن بضع أمتار ، انكشف جسمه بالتدريج ، قصدته ، اعــترضته ، تنحى عنها .. نطت أمامه مرة أخرى ، تمنته أن يتوقف ، أن يستمع إليها ، أن يفهم قصدها . قالت في نفسها وهي تشاهده يخطو في تؤدة ..
ــ أنا لست امرأة سهلة المنال كما تظن ،أحب الرجل الذي يتعب ويجري من ورائي .. لكن ..
رجع قافلا نحوها ، انفرج قلبها ، اقتربت منه ، القلوب تتقلب ، والمواقف تتغير ، حاولت أن تقبل يده ، بخفة سحبها نحو الأعلى ، مسحت سترته بيدها .. تأمل ولدها الملفوف في بطانية باهتة الألوان ثم قال :
ــ اتبعيني ..
قطعا مسافة قصيرة ، أشار إليها بالتوقف .. دق الباب ، خرجت امرأة عجوز ،قبل يدها وقال :
ــ أمي ، أكرمي مثوى هذا الطفل وأمه ..