بسم الله الرحمن الرحيم
الوقت: ذلك المخلوق العجيب
الحمد لله الواحد القهار ، مقدر الأقدار ، و مكور الليل على النهار ، والصلاة السلام على النبي المختار وعلى آله الكرام الأطهار ، و بعد :
الوقت من الزمن كالعضو من البدن ، فالزمان جسم و الوقت جزء ، و هما موطن العجائب ، و محل الغرائب ، وكنانة الأسرار ، و ميدان الأعمال ، و وعاء الأحداث ، و سجل التاريخ قال الشاعر : -
المجد و الشرف الرفيع صحيفة جعلت لها الأخلاق كالعنوانِ
دقات قلب المرء قـــــــــائلة له إن الحـــــــياة دقائق وثـوانِ
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنســـــان عمر ثانِ
• موقع الزمن من المخلوقات :
1. هو من أشرف مخلوقات الله تعالى ؛ لذا أقسم خالقه جل و علا بعلاماته و دلالاته فقال (الشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) ، و أقسم بأجزائه و أعضائه فقال:
(وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ) ، و قال عز من قائل ( و الفجر و ليال عشر ) ، و قال سبحانه (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) ، و أقسم به قسما شاملا فقال جل في علاه (وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) .
و الخالق العظيم عندما يقسم بأحد مخلوقاته دل ذلك على عظمته و شرفه ؛ فهو واحد من أعجب خلق الله تعالى القائل : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) ، لذا أمرنا الخالق جل وعلا أن نتفكر فيه فقال (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) ، و قال سبحانه ( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ) سورة النور 44 ، وجعل الخالق عز وجل حركة الليل و النهار و هما جناحا الزمن آية تستحق التأمل فقال (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ )يس 37 ، فالنهار ينسحب في أدب ، تاركا الميدان لرفيق دربه الطويل ، ليقوم بعمله ويؤدي واجبه بلا تقصير ؛ عملا بتوجيه الخالق البصير جل في علاه (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) النبأ 10 - 11.
• طبيعة الزمن :-
أنه مخلوق فريد ؛ موجود كالمعدوم ، و متحرك كالساكن ؛ لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، ولا كتلة ولا جرم ولا كثافة ؛ لا يورث ولا يوهب ، ولا يباع ولا يشترى ، ولا يعبأ ولا يخزن ، ولا يصدَّر ولا يورَّد .
ان الزمان سفينة تمضي بنــــــا سبحان مبدعها ومخفي جرمــها
تمضي بنا نحو المنــــون حثيثة لا نستطيع تفــــلتا من جسمـــــها
خفيت عن الأنظار وهي قريبـة و استوعب الأكوان وافر حجمها
أيـــــان مرساها و أين مقـــرها السر عنـــد الله مخفي علمــــــها
• صفات الزمن :-
1. يتحرك متدحرجا مثل كرة يغلفها الليل و النهار ؛ كما قال الخالق جلا وعلا مادحا نفسه (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) الزمر 5 ، وقال عن دلائل حركته (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) يس 38-39 .
2. يتنفس كلما تجاوز مرحلة ، و قطع شوطا ، وصفه خالقه وصانعه بذلك فقال (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) التكوير 17-18.
3. يمضي قدما لا يتوقف ولا يتجمد ولا يتبدد ، لا يعرف العطلات الرسمية و لا الاجازات السنوية ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) الانشقاق 6 .
4. يمضى سريعا بلا كلل و لا ملل : حتى أن الحياة بأسرها تكون في نهايتها كيوم أو بعض يوم ؛ و عندها يخسر المبطلون ، قال الخالق جل و علا (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) النازعات 46 ، وقال الشاعر :
عريت من الشباب و كنت غصنا * كما يعرى من الورق القضيب
بكيت على الشبــــاب بدمع عيني * فما أغنى البكـــاء و لا النحيب
فيا ليت الشبــــــــــاب يعود يوما * فأخبره بما فعــــــــــل المشيب
5. ما مضى منه لا يعود ، و ما فقد لا يعوض ؛ فهو لا يتولد ، ولا يتجدد ، ولا يتمدد ولا يتعدد ، ولا يتكاثر ، ولا يتناسل ؛ قال الشاعر :
فاقضوا مآربـــكم عجــالى إنما * أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا * أن تستردَّ فإنهــــن عوار
العيش نوم و المنية يقظــــــــــة * و المرء بينهما خيال سار
و قال الآخر :
أعوام وصل كان ينسي طـولُها * ذكرَ النوى فكأنها أيــام
ثم انثنت أيـام هجر بعــــــــدها * فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون و أهلها * فكأنـــها و كأنهم أحلام
6. لا يتكلم و لا يتألم و لا يتبرم و لايحس و لا يشعر لا يظلم و لا يجور و لا يجامل و لا يحابي و صدق القائل :
نعيب زماننا و العيب فينـــــا * و ما لزمانــــنا عيب سوانا
و نهجو ذا الزمان بغير ذنب * و لو نطق الزمان لنا هجانا
و ليس الذئب يأكل لحم ذئب * و يأكـل بعضنا بعضا عيانا
7. يُقتل و يُذبح و يُنحر و يهدر ، و صدق الشاعر حين قال :
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه * و أراه أهون ما عليك يضيع
تنبيهات و توجيهات :
1. المسيِّر للزمن هو الخالق جل و علا ؛ فالزمن مخلوق مسيَّر لا مخيَّر ، و ليس كما اعتقد الجهال قديما حين قالوا ( مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) الجاثية 24 .
2. لا يجوز أن نسب الزمن ، و نلعن الدهر لما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار ) متفق عليه
كقول بعضهم : يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا * وأنت والد سوء تأكل الولــــــدا
3. حفظ الزمن واجب و تضييعه محرم فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لرجل وهو يعظه : ( اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناءك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) أخرجه الحاكم في المستدرك و هو في صحيح الترغيب و الترهيب .
4. من المعينات على حفظ الزمن :
- معرفة قيمة الزمن ، و إدراك أنه أغلى ما نملك ، و قد جاء في الحديث عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم ( نعمتانِ مغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصِّحَّة والفراغ ) رواه البخاري
- جدولة الأعمال و تنظيمها (الجدولة اليومية ، و الاسبوعية ، و الشهرية ، و السنوية)
- وضع الأهداف و تعيينها (الأهداف القريبة ، الأهداف الوسيطة ، الأهداف البعيدة) مع الواقعية و البساطة .
- ترتيب الأولويات و تنسيقها (البدأ بالأهم فالمهم )
- تحديد الوسائل و توفيرها (الزمان و المكان والأشخاص و الأدوات )
- الحزم و ترك التسويف ( لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد )
- الحسم و عدم التردد :
اذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة * فإن فساد الرأي أن تترددا
- التفويض ( أشرك الآخرين ليوفروا عليك وقتك )
- اجتناب مضيعات الأوقات
5. من مضيعات الأوقات :
- التشتت ( غياب التخطيط و الأهداف و التنظيم)
- الأحداث الطارئة و المواقف العابرة
- المماطلة و الجدال
- لصوص الأوقات ( المتسللون بلا ميعاد )
- الهاتف و التلفاز ( التعامل مع الأجهزة الذكية بطريقة غبية )
- اللهو و اللعب ( الاستهتار و انعدام الجدية )
أبو المقداد
و الله الموفق