في العام 1962 حظي تلميذ ثانوي من كوريا الجنوبية بلقاء الرئيس الأمريكي جون كنيدي في البيت الأبيض إثر فوزه في مسابقة في اللغة الإنكليزية نظمها الصليب الأحمر الأمريكي في بلاده. وعند سؤاله من قبل أحد الصحفيين الأمريكيين عن هدفه في الحياة، أجاب الشاب الذي يتوقد ذكاءً أنه يريد أن يكون "دبلوماسياً" لكي يجوب أنحاء العالم.
اليوم وقد أوصلت أفكار المراهقة صاحبها إلى أعلى منصب دبلوماسي في العالم، ربما تبين للشيخ الذي دخل العقد السابع من عمره أنه قد يكون وصل إلى بداية الطريق الذي اختاره وليس نهايته.
بان كي - مون الكوري الجنوبي الذي أعاد لآسيا المنصب الذي افتقدته منذ 35 سنة، تم انتخابه من قبل مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ليكون ثامن أمين عام للمنظمة الدولية العالمية الأم مع بداية العام 2007.
خلال كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام وبكلمات دبلوماسية تتناسب مع تفكير الرجل الذي شغل منصب وزير خارجية لبلاده ومنصب مستشار لرئيس الدولة، رسم الأمين العام المنتخب خطته في إدارة مايعلم أنها أزمات جادة بين الدول في منصبه الجديد بقوله: "سوف تكون فترتي معلَّمة بمحاولات غير منقطعة لبناء الجسور وسد الفجوات، وسوف تكون قيادتي مبنية على التسامح لا على الانقسام وسوف أكون –كما كنت من قبل- قدوة بالفعل لا بالقول".
ولكن، يبدو أن المواطن الكوري السابق، سوف يتعلم من منصبه الجديد دروساً في الدبلوماسية مختلفة عن تلك التي درسها في جامعة سيول (1966 – 1970) حين حاز شهادةً في العلاقات الدولية، أو تلك التي استكملها في معهد كينيدي التابع لجامعة هارفرد ما بين عامي 2001 - 2003. ولعل أول هذه الدروس هو أن يعرف معالي "الأمين" أنه ربما اقتضت "الدبلوماسية" منه ألا يكون أميناً في كل عمله. وأن يراعي "بدبلوماسية واقعية" ما تقتضيه "المصالح المشتركة" لقضايا الأمن والسلم في العالم.
فعلى سبيل المثال، إذا اضطربت الأمور في تقدير الأمين العام حول القضية الفلسطينية التي جعلها ضمن أهم ثلاثة محاور يريد أن ينال شرف حل أزماتها، ورأى أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والقصف الإسرائيلي المتكرر على الشعب الفلسطيني والحصار المستمر، كل ذلك مخالف للأسس التي قامت عليها المنظمة الدولية التي عين أميناً لها، فإنه ربما كان من "الدبلوماسية" المطلوبة ألا يستعجل حل هذه الأزمة القديمة قدم المنظمة ذاتها، وأن عليه أن يتحلى بصبر جميل مهما كبرت المأساة، ولكن عليه ألا ينسى أن يبادر بشجب واستنكار أي عملية "إرهابية" فلسطينية ترتكب ضد الإسرائيليين.
وكذلك، قد يكون من المفيد للأمين الدبلوماسي الجديد أن يصرف نظره عن مقتل أكثر من نصف مليون عراقي بسبب الاحتلال الأمريكي - البريطاني، وليس عليه من بأس لو شكك في صدقية هذا الرقم، ولكن عليه أن يركز جهوده على الآلاف الذين قتلوا في دارفور من غير ذنب، حيث إن هذه جريمة مسئولةٌ عنها منظمته التي "اؤتمن" على سمعتها كحامية للقانون الدولي في العالم.
وفي نفس السياق فلعله من الحكمة المطلوبة عند المخضرمين من الدبلوماسيين ألا يعير الأمين العام للأمم المتحدة انتباهاً لانتهاكات القانون الدولي الإنساني في العراق وأفغانستان، كاستتخدام الأسلحة العنقودية واليوارنيوم المنضب المحرمين دولياً، وأن يعتبر أحداث أبي غريب وغوانتانمو ووجود المعتقلات السرية لبعض أعضاء مجلس الأمن الدائمين حالات شاذة لا تستحق أن تشقى المنظمة الدولية من أجلها.
وأما عن التعامل مع المقاومة في العراق وأفغانستان فهو أمر مختلف للغاية، ويجب أن يؤخذ بكل الجدية. ولا يجوز للأمين العام للأمم المتحدة أن يسكت على تجاوزات "الإرهابيين" في العراق أو أفغانستان أو غيرهما، إذ إن على الأمين العام أن يعلن بقوة أنه مع الحرب ضد الإرهاب لأنه لا يريد أن يصنف مع المحور الذي هو ضدها بناءً على قاعدة "من ليس معنا فهو ضدنا".
كما أن عليه أن يعمق العلاقات مع سفير الولايات المتحدة لدى منظمته ولا بأس أن يتخذه مستشاراً سرياً خاصاً له من باب أن مشورة العقلاء مطلوبة! وعليه أن يستشرف موافقته المبدئية في أي قضية قبل أن يبدي رأيه فيها، حيث هو الرئيس العام الفخري غير الرسمي للمنظمة الدولية، ومن غير الحسن الإقدام على أمر قبل أخذ موافقته المسبقة.
كما أن على الأمين العام الجديد أن يتعلم متى تكون حكمة الصمت مطلوبة، وقد ضرب له الأمين المغادر أمثلة يحتذى بها. فإذا ما سمع الأمين العام الجديد بحوادث لتدنيس القرآن الكريم، أو نطق البابا أو غيره بكلام ضد الإسلام، ربما كان أولى به ألا يقحم نفسه في مثل هذه الأمور خاصة أنه لم يطلب منه. وأما إذا تكلم الرئيس الإيراني على إسرائيل وشكك في صدقية ثبوت المحرقة اليهودية، فإن عليه أن يسارع بالتنديد بهذه العبارات التي لاتخدم الأمن والسلم العالميين، وعليه أن يرفع هذا الشأن إلى مجلس الأمن ليتخذ حوله إجراءً معيناً.
وفي نفس السياق فإن عليه أن يصرف نظره تلقاء أي قصف إسرائيلي على لبنان أو غيره وإن كان من نتيجته تدمير البنية التحتية لبلد بكامله أو قتل الآلاف وتشريد عشرات الآلاف، لكن إذا ما كان الأمر يتعلق باغتيال رئيس حكومة سابق فإن عليه أن يشكل لجنة تحقيق خاصة وأن تعطى هذه اللجنة كل الصلاحيات والمساعدات المطلوبة، لأن الأمر يهم أمن وسلام المنطقة بأسرها!
كما أن على الأمين العام الجديد أن يتعلم كيف يترك الخوض في الفتن التي لا طائل من ورائها، وألا يستمع لمن ينادي بالتحقيق في التقارير التي قدمتها "بعض الدول" لمجلس الأمن حول حيازة العراق أسلحة دمار شامل والتي تبين كذبها فيما بعد، لأن بعث هذا من جديد لايفيد شيئاً وكما يقولون في الأمثال العامية "الكلام في الفايت نقص في العقل"!
وواضح أن معالي الأمين الجديد قد أدرك بحكمته الثاقبة حاجته إلى "الدبلوماسية المرنة" في تعامله مع أعضاء مجلس الأمن الدائمين قبل وصوله إلى مكتبه في البناية الزجاجية في نيويورك. حيث قام بان كي - مون بزيارات متعددة للدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن منذ ترشيحه لهذا المنصب في فبراير شباط الماضي تخللتها حملة منظمة لنجاح ترشيحه للمنصب الجديد. فقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية تحقيقاً في عددها الصادر في 29 سبتمبر (أيلول) الماضي جاء فيه أن وزير خارجية كوريا الجنوبية قد زار عدداً من دول أعضاء مجلس الأمن الدائمين ووقع معها عقوداً بملايين الدولارات لضمان ترشيحه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة. ولعل هذا السجل الحافل يكون معيناً له في التعامل مع بعض الأزمات التي تعترض عمل الأمين العام كما لو تكررت أزمة "النفط مقابل الغذاء" مرة أخرى في المستقبل لا سمح الله!
في الوقت ذاته، قد يجد الأمين خلال تجربته الدبلوماسية الكبرى أن رغبته -التي عبر عنها في خطابه أمام الجمعية العامة يوم ترشيحه- في إصلاح ذات البين بين الدول الأعضاء قد تكون أعسر من ولادة الشرق الأوسط الجديد!
وإذا ما تبين له ذلك، فلعله يعتذر عن فشله في عدم مقدرة منظمته على "بناء الجسور وسد الفجوات" بين الدول الأعضاء، بأسلوب دبلوماسي يبرئ فيه نفسه، إذ لا أحد يستطيع أن يجعل من الأشرار (أعداء الولايات المتحدة كما يصفهم بوش) والشيطان (بوش في نظر أعدائه كشافيز) صناع سلام!
وإذا ما جاء ذلك اليوم الموعود، فإنه ربما تمنى معالي الأمين العام للأمم المتحدة أن لو رده الزمان شاباً يافعاً ليعيد النظر في أمنيته الأولى ليغيرها!
محمود المبارك
حقوقي دولي.